كتاب عربي 21

"جيل زد" العالمي شرب من معين الانتفاضة

نور الدين العلوي
"جيل زد ليس جيلا "غريبا" عن الذاكرة السياسية العربية، بل هو الامتداد الأكثر نجاحا لمدرسة عربية أصيلة في التحكم الأخلاقي بالفضاء العام"- إكس
"جيل زد ليس جيلا "غريبا" عن الذاكرة السياسية العربية، بل هو الامتداد الأكثر نجاحا لمدرسة عربية أصيلة في التحكم الأخلاقي بالفضاء العام"- إكس
نعتقد اعتقادا جازما أن الربيع العربي قد شرب من معين الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وأن حركات جيل زد (Z) شربت من معين الربيع العربي بما يجعل الانتفاضة الفلسطينية منبعا لكل الحراك المدني والسياسي في العالم الجديد، ونجزم بيقين أن معركة الطوفان ستكون فاتحة لحراك كوني يسعى إلى عدالة كونية.

نحاول التدليل على أنّ جيل زد هو الوريث الهيكلي لبراديغم احتجاجي تشكّل في الانتفاضة الأولى، ووجد امتداده في موجة الربيع العربي، قبل أن يكتسب شكله المعولم والمكتمل اليوم عبر البيئة الرقمية. لكن تأصيل جيل زد في الانتفاضة لا يستهدف إصدار شهادة ميلاد أو ملكية، بل نود أن نفتح به على سؤال أهم: هل يمكن استعادة الانتفاضة الفلسطينية وتحويلها إلى انتفاضة كونية لا ضد كيان (محدود في الجغرافيا) بل ضد الدولة الهيجلية نفسها، خصوصا بعد الزخم الأخلاقي الذي أحدثه الطوفان في العالم؟

جيل زد: الوريث الهيكلي لبراديغم احتجاجي بدأ في الانتفاضة الأولى

إنّ ما يُتفق عليه الآن بـ"جيل زد" هو فعلا ظاهرة اجتماعية أو ثقافية مرتبطة بالتكنولوجيا، وهو يعبر عن تحوّل عميق في أساليب الفعل السياسي الاحتجاجي بالخصوص، بما يسمح بالتفكير في أن فلسفة الفعل السياسي نفسها بصدد التغير العميق، وخصوصا في الأسس التي تُبنى عليها القوة الاجتماعية لمواجهة احتكار الدولة للعنف والشرعية.

ما يُتفق عليه الآن بـ"جيل زد" هو فعلا ظاهرة اجتماعية أو ثقافية مرتبطة بالتكنولوجيا، وهو يعبر عن تحوّل عميق في أساليب الفعل السياسي الاحتجاجي بالخصوص، بما يسمح بالتفكير في أن فلسفة الفعل السياسي نفسها بصدد التغير العميق

ونجد أنّ فهم هذا التحول لا يكتمل ما لم نعد إلى جذور أبعد، لا تقف عند العولمة الرقمية، بل تمتدّ إلى تجربة عربية مبكرة سبقت زمن الإنترنت نفسه وهي الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987–1993)، وما تلاها من لحظة أولى للربيع العربي في 2011. إن رابطا عميقا يخترق الوقائع الثلاث، ولا نراه يقف عند جيل زد بل هو طريق محتمل إلى انتفاضة كونية على نموذج الدولة صاحبة الحق في العنف.

لنعد إلى قراءة الانتفاضة لنفهم جيل زد؛ مثّلت الانتفاضة الفلسطينية الأولى نقطة انعطاف تاريخية في النضال التحرّري العربي، ليس فقط من حيث نتائجها السياسية، بل من حيث الأخلاق التنظيمية التي دشّنتها. فللمرة الأولى، تشكّلت حركة مقاومة واسعة النطاق على قاعدة اللامركزية الجذرية (لجان محلية صغيرة، تنسيق أفقي، ابتكار تكتيكات منخفضة الكلفة، تسييس الحياة اليومية، وتجنّب الاحتكاك المباشر المسلّح مع قدرة الدولة على العنف).

كان قلب التجربة هو تعطيل وظيفة الدولة دون الوقوع في تعريف الدولة للصراع. فلم تنحُ المقاومة إلى مواجهة عسكرية، بل عبر المقاطعة الاقتصادية، والعصيان الضريبي، ثم إنشاء بدائل تربوية، وتنظيم الأسواق، وإعادة توزيع الأدوار الاجتماعية، أي صياغة معنى جديد للجماعة السياسية. لقد كانت الانتفاضة الأولى مدرسة في تحويل الحياة اليومية إلى سياسة، وفي بناء كتلة جماهيرية قادرة على إنتاج الشرعية من داخلها لا عبر مؤسسات ممأسسة. لقد كانت إعادة ترتيب أخلاقية للفضاء الاجتماعي عبر هذه العناصر الخمسة: اللامركزية، والأفقية، والعمل منخفض الكلفة، وتسييس الحياة اليومية، وإنتاج خطاب أخلاقي مضاد، وهي العناصر نفسها التي تُعرِّف اليوم فعل الاحتجاج عند جيل زد. ولهذا، فإنّ الانتفاضة الأولى ليست مجرد "حدث تاريخي سابق"، بل هي النموذج المؤسِّس لتقنية احتجاجية ما زالت فاعلة حتى الآن.

اللحظة الأولى للربيع العربي الامتداد قبل الانكسار

عندما انفجرت موجة الربيع العربي، ولا سيما في تونس ومصر، برز مجددا النموذج نفسه، شباب خارج الأحزاب، وتنظيم أفقي، وعدم عسكرة الحراك، والاعتماد على "الكتلة الأخلاقية" لا على القيادة الكاريزمية، وتشكيل جماعات منطقة لا جماعات أيديولوجية. لقد بدا أنّ ما ابتكرته الانتفاضة الأولى في شروط الاحتلال العسكري، يجري نقله إلى فضاء الدولة الوطنية العربية.

كان الحراك التونسي، في لحظته الأولى، يقوم على منطق مشابه: بناء مجموعات منسوجة حول روابط مهنية أو جهوية أو شبكية خفيفة؛ ملكت القدرة على تحويل الشارع إلى مساحة ضغط سياسي؛ وأفلحت في توظيف الوسائط الرقمية الأولى كأداة للتنسيق لا كمحور للهوية. وفي مصر، مثّلت شبكات "كلّنا خالد سعيد" مثالا لافتا على إعادة إنتاج النموذج الفلسطيني في بيئة حضرية عربية ضخمة، عبر بناء الثقة عبر قصص صغيرة، ثم تحويل تلك الثقة إلى حركة جماهيرية واسعة.

غير أنّ الربيع العربي، خلافا للانتفاضة الأولى، وقع سريعا في مصيدة الدولة، فجرى تخريبه من الداخل عبر التفاوضات السطحية (تونس)، وجرى اختراقه من قِبل القوى الإقليمية (ليبيا واليمن)، كما جرى ابتلاعه عبر العسكرة القاتلة (مصر وسوريا). ومع ذلك، تبقى لحظته الأولى لحظة انبثاق لنفس البراديغم الذي سيجد اكتماله لاحقا في جيل زد: براديغم يقوم على أنّ القوة السياسية لا تكمن في التنظيم الهرمي، بل في كثافة العلاقات الاجتماعية الصغيرة وفي القدرة على تحويل أي فعل فردي إلى حدث سياسي جماعي.

جيل زد: تحوّل رقمي فعال لا ابتكار سياسي

تتعامل كثير من التحليلات المعاصرة مع جيل زد بوصفه نتيجة مباشرة للبيئة الرقمية؛ وهذا صحيح جزئيا، لكنه يخفي البعد الأعمق: البيئة الرقمية لم تُنتج النموذج، بل وسّعت نطاقه وأعطته قدرة معولمة على الانتشار. إنّ ما يميّز جيل زد ليس أنه "رقمي"، بل إنه استطاع تحويل الممارسات الاحتجاجية التي وُلدت في سياقات محلية (فلسطينية وعربية) إلى لغة كونية، فالتحوّل الرقمي أتاح:

- تنسيقا فوريا بلا بنى تنظيمية؛

- تضخيما شديدا للأفعال الصغيرة؛

- خلق فضاء سردي مضاد للدولة في الزمن الحقيقي؛

- تحويل التضامن المحلي إلى تضامن عابر للحدود؛

- إعادة تعريف "الجمهور السياسي" بوصفه جمهورا شبكيا لا جمهورا وطنيا.

إنّ ما يفعله جيل زد اليوم في جامعات نيويورك أو شوارع الدار البيضاء أو ساحات كاتمندو؛ ليس سوى إعادة إنتاج آليات مقاومة الشعب الفلسطيني والمجتمعات العربية في لحظاتها الثورية الأولى، ولكن بوسائط رقمية تجعل من المحليّة بوابة للعالمية.

نقل الفلسطينيون وعرب الربيع، السياسة من المجال العسكري إلى الحياة اليومية، ومن القيادة المركزية إلى العلاقات الأفقية، ومن الأيديولوجيا إلى الأخلاق. وما فعله جيل زد هو أنه أخذ هذا التراث، وحرّره من الجغرافيا، وعمّمه على العالم بأسره

بهذا المعنى، فإنّ جيل زد ليس جيلا "غريبا" عن الذاكرة السياسية العربية، بل هو الامتداد الأكثر نجاحا لمدرسة عربية أصيلة في التحكم الأخلاقي بالفضاء العام. وما يثير الاهتمام أنّ العديد من رموز جيل زد في الغرب (كما في حالة زهران ممداني في نيويورك) لم يبتكروا فلسفة جديدة، بل قاموا بتطبيق نظريات ممداني الأب في سوسيولوجيا الدولة على أدوات الانتفاضة الفلسطينية وتحولات الربيع العربي، لقد عثروا على نقطة التطابقٌ العبقرية بين النظرية والممارسة.

الأفق الكوني للانتفاض

لأنّ الانتفاضة الأولى كانت أوضح مثال عربي على هذا النموذج، فإنّ إعادة قراءة جيل زد في ضوئها يعيد الاعتبار لمركزية الخبرة العربية في إنتاج أدوات المقاومة المدنية التي يستعملها العالم اليوم. نحن لسنا أمام "جيل غربي رقميا"، بل أمام مفهوم عالمي لجماعات المقاومة، جذوره عربية بامتياز. لكن هذا التأصيل لا يقع في الفخر المرضي بمنجز مهما عظم بل الغاية أن نبحث عن تحويل الدرس الأول إلى مسار لا يتوقف ولا يكتفي إلا بعدالة كونية شاملة.

ورغم أن حرب الطوفان غيرت وسائلها عن وسائل الانتفاضة إلا أنها حركت العالم، فكان تفاعله بوسائل جيل زد لتحقيق نفس الأهداف المرفوعة في غزة بوسائلها المحلية. وكان أبدع ما في التضامن الكوني أن تحدى تهمة الإرهاب وإسناد الإرهاب، وهي الراجمة التي كانت توجه إلى كل من يذكر فلسطين بخير، وكان من تبعات ذلك أن صارت تهمة معادة السامية نكتة.

لقد نقل الفلسطينيون وعرب الربيع، السياسة من المجال العسكري إلى الحياة اليومية، ومن القيادة المركزية إلى العلاقات الأفقية، ومن الأيديولوجيا إلى الأخلاق. وما فعله جيل زد هو أنه أخذ هذا التراث، وحرّره من الجغرافيا، وعمّمه على العالم بأسره. وفي هذا المعنى، ليس جيل زد "ثورة رقمية" بقدر ما هو ذاكرة عربية متفاعلة مع زمن جديد.

بقي الآن على العرب أن يستعيدوا منتجهم المعولم وقد جُرب فصحَّ، ليوسعوا به هوامش حرياتهم في أقطارهم باعتماد نقد موحد لأسباب فشل الموجة الأولى من الربيع؛ لأن المشهد العربي والفلسطيني صار أكثر وضوحا بعد حرب الطوفان. كل العرب رازحون تحت نفس الاحتلال إنما لاختلاف في الأدوات، ولا مجال لتحرير رقعة من الأرض دون معركة شاملة في كل مربع، وإذا كان مربع غزة احتاج القوة فإن بقية المربعات قد تستغني بالهاتف الذكي عن كل سلاح. المطلوب شيء من عزيمة ممداني في نيويورك، لقد دلت فلسطين ممداني على الوسيلة المفيدة؛ أفليس من الأصلح لأصحاب الوسيلة أن يستعملوا وسيلتهم الفلسيطينية.. الانتفاض الشامل؟
التعليقات (0)

خبر عاجل