مقالات مختارة

هل يستيقظ السيد فانس؟

سامح المحاريق
إكس
إكس
تتضاءل شخصية جي دي فانس في حضور الرئيس ترامب، ويظهر نائب الرئيس بوصفه مرؤوسا يحاول أن يسترضي رئيسه في العمل، وليس فاعلا سياسيا في موقع بالغ الأهمية في منظومة الحكم، وشخصا ربما لسبب أو لآخر يمكن أن يبقى بعض الوقت رئيسا للولايات المتحدة في حالة شغور المنصب، لوفاة الرئيس أو رحيله في فضيحة شخصية أو سياسية، وهذه أمور واردة مع رئيس بشخصية ترامب، الذي يعود بين وقت وآخر للتصعيد محليا ضد الولايات ذات الانتماء السياسي للحزب الديمقراطي.

تجاوز فانس الأربعين من العمر بقليل، وهو ثالث أصغر من يتولى المنصب في التاريخ الأمريكي، وتعتبر قصته ذات الملامح الدرامية، نموذجا لرحلة الصعود لشاب موهوب كان عليه أن يعتمد على نفسه في ظروف صعبة سادت لفترات من حياته، ففي مقتبل عمره كان فانس يعتمد على التبرعات الغذائية التي تحاول جدته أن تتدبرها بالكميات اللازمة لمراهق يميل للبدانة، ورغم عنايته بمظهره، مثل سائر السياسيين الأمريكيين في العقود الأخيرة، فما زالت آثار الجسد الممتلئ بادية للعيان وتعطيه لمحة طيبة يصر على تبديدها سريعا، ليكون لائقا بنادي الأشرار الذي يضعه بجانب شخصيات تليق بالكواليس، التي يتخيلها أنصار نظرية المؤامرة، ويمثلها في فريق ترامب رجال مثل ستيف ويتكوف وتوم براك، وبالتأكيد، الصهر المدلل جاريد كوشنر.

يمثل فانس ثقافة منطقة أبالاشيا، التي تضم مجموعة من الولايات غير الساحلية في شرق الولايات المتحدة، من ألاباما جنوبا إلى أطراف نيويورك شمالا، ويتميز السكان في هذه المناطق، وهم منحدرون من أصول أيرلندية واسكوتلندية بالتدين والترابط الأسري، وكانوا يشكلون عصبا للطبقة العاملة في قطاع الصناعة وتأثروا عميقا بتراجعه في أمريكا، والوعود التي أطلقها ترامب بإعادة توطين العديد من الصناعات في الولايات المتحدة هي أساس التقارب بينه وبين فانس وبعد فترة من العداء واتهامات صريحة من فانس لترامب، باستغلاله لغضب البيض الفقراء، واعتباره خطرا على أمريكا.

نقاط الالتقاء الأساسية بين فانس وترامب جعلت مهمة نائب الرئيس منصبة بصورة أساسية على الملفات المتعلقة بالتجارة والتقدم بأجندة أمريكا أولا، وهي الأجندة التي تضبط نزق الرئيس الأمريكي في الملفات الخارجية، وتجعله ميالا إلى تجنب السلوك الاستنزافي والصدامي ومحاولة التملص من الالتزامات الأمنية والدفاعية التي كانت تتحملها أمريكا في حلف الناتو، بل التراجع عن الدور الأمريكي في العديد من المنظمات الأممية، ولذلك لم يكن فانس قريبا من ملف الشرق الأوسط في المرحلة السابقة، إلى أن جاءت زيارته إلى إسرائيل وهو يحمل خطوطا حمراً تتعلق بتثبيت وقف إطلاق النار في غزة، مع تصريحات رفضت بصورة واضحة تصويت الكنيست على ضم الضفة الغربية.

يتزامن ظهور فانس في الشرق الأوسط، وهامش تحركه الذي يظهر شخصيته التي بقيت في الأشهر الأخيرة أسيرة علاقة التبعية مع ترامب، مع ظهور جاريد كوشنر في المرحلة الأخيرة قبيل الوصول إلى اتفاق غزة، التي جعلته يحضر بوصفه أصيلا يزيح الوكيل ويتكوف، المبعوث الذي ظهر في المراحل السابقة، بعد أن تخيل البعض أن الصهر القديم يفسح المجال للصهر الجديد الذي تحصل والده بولس مسعد على منصب رفيع في إدارة ترامب. يختلف فانس عن كوشنر في كل شيء، فالفتى الذي اضطر لسرقة آلة حاسبة في مراهقته ليستخدمها في الدراسة، يواجه الفتى المُنعَم الذي نشأ في عائلة ترتكب جرائم كبيرة مثل، الرشوة وتشكيلة متنوعة على طيف الفساد والإفساد، ولكن آخر ما كان يعني أسرة كوشنر هو توفير الطعام على الطاولة، ولعل أنواعا من الطعام كانت بين الوجبات الاعتيادية لكوشنر لم يسمع بها أو يتذوقها فانس إلا في مرحلة متأخرة من حياته.

هل يعني ذلك شيئا بالنسبة للشرق الأوسط، هل تؤثر كمية الكربوهيدرات على طاولة العشاء ونوعيتها، أي أثر على سلوك أمريكي تجاه الأشهر المقبلة الحاسمة في تاريخ المنطقة؟ ليس بصورة مباشرة، ولكن دوافع فانس تضع في اعتبارها أن يحصل على شيء من الرضا من الدول العربية الثرية، التي يمكن أن تستثمر في الصناعات الأمريكية، ومئات مليارات الدولارات التي ستضخ ضمن ترتيبات سياسية من وجهة نظره، ستنقذ ملايين الأطفال من أمثاله من العيش على هامش الحياة، وهو يعرف أن ذلك مقابل مجاملة سياسية، يجب أن تكون في البحث عن مخرج مناسب يمكن أن تتقبله الدول العربية، أما كوشنر فهو الابن الموعود الذي يبحث عن وجوده في تاريخ غامض ومركب ومعقد للنخبة اليهودية في الولايات المتحدة، التي تبحث عن تحقيق الذاتي الفردي والعائلي بما تقدمه من خدمات للمشروع الصهيوني، الذي يقدم نفسه خيارا وجوديا وحيدا لأزمة الشعب اليهودي.
بين الرجلين يبدو الصدام حتميا تقريبا، والخلاف سيتصاعد داخل فريق ترامب وحلقته الضيقة

بين الرجلين يبدو الصدام حتميا تقريبا، والخلاف سيتصاعد داخل فريق ترامب وحلقته الضيقة، ولكن هذه الحالة المتوقعة لا يمكن أن يحلها ترامب على طريقته، بإنشاء منصة «تروث سوشيال» ليتخلص من سلطة موقع إكس (تويتر)، فبينما يظهر كوشنر من داخل النخبة المؤثرة وثقيلة الوزن داخل الممولين المخلصين لترامب، ففانس هو سيرة شعبية ملهمة لنحو 25 مليون أمريكي يتشاركون معه ظروفه وهمومه ورؤاه، بمعنى أنه يمكن أن يشكل خلال السنوات المقبلة التسوية المقبولة داخل الحزب الجمهوري.

تحصل فانس في موقع نائب الرئيس على الفرصة للظهور الإعلامي بالصورة الكافية بين الأمريكيين البيض، الذين أيقظهم ترامب بفوضويته وصوته المرتفع وجرأته في طرح الكثير من المسكوت عنه قسريا، تحت سلطة الصوابية السياسية التي أسسها اليسار الأمريكي، وهذه نقلة مهمة تعيده لجذوره من موقعه النخبوي بوصفه محاميا متخرجا في جامعة ييل التي التحق بها لتفوقه الدراسي، والأمريكيون يرونه الفتى الخشن الذي يحمل روحهم ويمكن أن يرتدي الجينز الممزق والقمصان الكاروهات، أما كوشنر فهو مجرد الصهر الذي لا يفهمون سببا لوجوده، سوى نزوات الرئيس الذي يستطيع أن يسوي بعض الأمور بمؤشرات الطلب على الموظفين المرتفعة، بغض النظر عن أثرها الاقتصادي السلبي في المدى البعيد. فانس ليس وحيدا في مواجهة ربما تضعه الظروف داخلها، وتجعل ترامب حائرا بين حاسته المرهفة للتهديدات والمخاطر، ونزعته الذاتية والأسرية، فرجال من طراز إيلون ماسك يمكن أن يجدوا في فانس الحليف المناسب والأكثر عقلانية واتزانا وفاعلية لتحقيق أهدافهم، وبذلك تكون المواجهة بين الثروة القديمة والملموسة في تحالفات العقارات، وثروة رياديي الأعمال الطموحة والصاعدة هي المحرك الأساسي لصراع سياسي يشعله الشرق الأوسط داخل الإدارة الأمريكية.

كوشنر تحركه دوافعه الشخصية والثقافية ورغبته في بناء تاريخ لأسرة ذات ماضٍ غير مشرف، وفي المقابل، يأتي فانس الذي يرى أن الشرق الأوسط منطقة أمريكية سواء بالهيمنة الإسرائيلية أو من غيرها، وأن المبالغة في دعم إسرائيل يمكن أن تنتج أثرا سلبيا، وفانس لا يبدو أنه يحب أن يكون شريكا في صفقة خاسرة في المدى البعيد، من أجل أن يرتدي ترامب بزة أنيقة في احتفال نوبل المقبل ويدشن سلاما مترنحا من الأساس ليترك لأمريكا ملفات ثقيلة من الفوضى مثل أفغانستان والعراق. هل يستيقظ فانس؟ وما الذي يعنيه ذلك؟ أم أن رؤيته للشرق الأوسط كمنطقة مضمونة للنفوذ الأمريكي يمكن أن تجعله يدخل في تسوية سياسية ذات طابع شخصي؟

ربما يصبح فانس الرجل القادم في السنوات القليلة المقبلة، وربما أسرع مما يتصور كثيرون، ويتعلق الأمر بقدرته على تدبير انقلاب درامي كالذي أحدثه في مراهقته، لينتقل من طفل بلا مستقبل إلى نموذج للحلم الأمريكي، والأكيد أن شخصية التابع البغبغائي، الذي يعيد كلمات رئيسه لا ترضي فانس في جميع المناسبات والأوقات.

القدس العربي
التعليقات (0)