مقالات مختارة

الإنذار النيبالي وموسم الثورات الرقمية القادم

سامح المحاريق
جيتي
جيتي
لا تعيش النيبال فقرا حقيقيا يجعلها حالة متفردة بين الدول الفقيرة، ولكنها مثل كثير من الدول الآسيوية، يمكن تصنيف معظم شعبها ضمن فئات متباينة من محدودية الدخل، بمعنى أن النيباليين يمثلون نسخة آسيوية للعين البصيرة واليد القصيرة.

كان ذلك سببا للاضطرابات السياسية متعددة الفصول على امتداد العقود الثلاثة الأخيرة، فالبلد الغافي على مقربة من سقف العالم في جبال الهيمالايا، ويشتهر بتصدير العمالة الزهيدة التكلفة، كان يقترب من تحويل هذه النمطية في التحولات السياسية الحادة إلى أسلوب حياة، وهذه حالة كلاسيكية، حيث يكون الخائفون من الفقر، أو الواقفون على حافته، هم الأكثر استعدادا للتعبير عن الغضب أو الثورة، أما المستقرون في الفقر فيتحركون متأخرا نسبيا.

ولكن هذه المرة فالاضطرابات في النيبال يجب أن تستدعي انتباه العالم، والعديد من الدول النامية والمتقدمة على السواء، لأنه بجانب الأسباب التقليدية لتخمر وانفلات الغضب، تظهر مواقع التواصل الاجتماعي وتفاعلاتها لتضع النيبال كأول بلد تتقاطع ثورته مع التكنولوجيا وفضائها، بوصفه جزءا لا يمكن تجاهله أو إغفاله من المجال العام، وكأن الواقع يقرر إضافة سيناريو جديد لسوداوية عالم مسلسل «المرايا السوداء» الذي يقدم المصائر الكئيبة لحياة البشر في عصر التكنولوجيا.

للأزمة أسبابها المعلنة، حيث طلبت من المنصات الكبيرة مثل «فيسبوك وأنستغرام العمل على تأسيس مكاتب محلية والالتزام بالقوانين الخاصة بخطاب الكراهية والأخبار الكاذبة، وهذه الأسباب لم تقنع جيل الشباب الذي يعرف بجيل زد (مواليد 1995 – 2010) الذين رأى بعضهم أن الحكومة توقف المواقع للتضييق على الآلاف الذين يستفيدون من المواقع في أعمال التجارة والتسويق، وكان آخرون يتحدثون عن رغبة في التضييق على الحريات، خاصة بعد أن جرى تداول صفحات أبناء كبار المسؤولين Nepo Babies ، بل يعتبر تداول هذه الصفحات، الذي وصل أحيانا إلى طباعتها ورقيا مع بداية تنفيذ الحظر، سببا في تأجيج الغضب بصورة واسعة.

قبل سنوات طويلة لم يكن المواطن العادي يرى سوى قمة جبل الجليد من تمظهر الفساد السياسي والمالي، وبعض الذين كانوا يرتدون البزات السفاري الرخيصة تكشف أنهم كونوا ثروات في أماكن بعيدة، ولكن الجديد، أن حالة الاستعراض ومقابلها من حالة تلصص جمعي، جعلت الأمور محفزا لغضب شامل وواسع، أو سلما تعبره المجتمعات درجة بدرجة لتصل إلى الكتلة الحرجة، ولكن الجميع على الطريق بصورة متفاوتة.

تطورت المشاهد لتقدم مئات الآلاف من المتظاهرين وهم يطاردون المسؤولين بعد تجريدهم من ملابسهم، وينهالون عليهم بالصفعات والركلات، وبعد ذلك أتى مشهد الطائرات التي ترمي لهم الحبال لتنقذهم من بيوتهم الفارهة، وتوسعت لتظهر الحرائق في المرافق الرسمية والفنادق الفاخرة، بوصفها رمزا لنظام فشل حتى في إظهار الحد الأدنى من القدرة على تقييد تفشي التفاوت الاجتماعي في المجتمع.

تبدو مواقع التواصل الاجتماعي بصورة أو بأخرى، ووفقا لحالة كل بلد وظروفها، مدعاة لإضافة معادلات جديدة في فهم المجال العام، ففي الحالة النيبالية، ونتيجة لانفصال النخب السياسية وتداخلها العميق مع الفساد المالي ظهرت طبقة مرفهة على المستوى الاقتصادي، ولم يهتم الآباء من رجال الدولة بمتابعة سلوكيات أبنائهم المتفاخرة بمفردات حياتهم المادية غير المتاحة لمعظم النيباليين، ومع تصاعد نبرة النقد كان إغلاق مواقع التواصل حلا سهلا وغبيا في الوقت نفسه، ولكنه أدى إلى ظهور سؤال اجتماعي صعب وبصورة متزامنة يدور حول المستقبل، ويشعر النيباليين بأنهم مختطفون، ويبني سجنا افتراضيا كانت الحكومة في غنى عن تشييده (افتراضيا) ليطلق غضب يقوم على شعور هائل بالخواء وفقدان المعنى.

الفكرة الأساسية من السجن هي عزل السجين، ووضعه بعيدا عن أسرته ومحيطه الاجتماعي، فهو لا يعرف ماذا يفطر أبناؤه صباحا، وكيف يعيشون، وهل تعرض ابنه إلى الضرب في المدرسة أو الشارع، وهل تعرضت أسرته لتنمر الجيران، وهذه الحالة مع الحجب لمواقع التواصل أصبحت قاسما مشتركا في نيبال، ليس بالطريقة الحادة نفسها، ولكن في حالة من الشيوع الواسع، وكان طبيعيا أن ينصرف الغضب تجاه أبناء المسؤولين الذين حركتهم الأنانية الاستعراضية والذين لم يتغير عليهم شيء، فهم يعيشون الحياة المترفة في النهاية، أما ملايين الشباب من العاطلين عن العمل، فيحاولون التواصل والشكوى المستمرة بصورة صريحة أو ضمنية، وسلبهم فضاء تواصلهم يعني عمليا قطع حبل إنتاج حالة من الوهم يصنعونها ويعملون على صيانتها ليجدوا أنفسهم دفعة واحدة أمام الحقيقة الصعبة.
اعتادت الأجهزة الأمنية على التحوطات المتعلقة بالعمل في ميدان واقعي

اعتادت الأجهزة الأمنية على التحوطات المتعلقة بالعمل في ميدان واقعي، حيث يمكن مراقبة التجمعات البشرية المتعمدة والعفوية ورصدها، ولكن هذه الأجهزة على الرغم من إسرافها في الرصد والمتابعة، لم تمتلك يوما ما رؤية لتعامل فاعل مع بيئة التواصل الاجتماعي، لأن الغضب الذي يمكن أن تحمله فئات اجتماعية في العالم الواقعي، يعتبر محدودا ويمكن متابعته، أما الغضب الذي يتمدد افتراضيا فهو من الاتساع والتباين بصورة تجعله غامضا ومستغلقا على الفهم.

اللجوء إلى حجب مواقع التواصل ليس بدعة نيبالية، ففي مصر وتركيا وإيران حدثت عمليات الحجب أثناء بعض المظاهرات في السنوات الأخيرة، والعديد من الدول تحجب موقعا أو آخر، ولكن سيولة الحدث الذي بدأ على أرض الواقع ولأسباب تتعلق باعتبارات أمنية تحت السيطرة، جعلت الفضاء الإلكتروني جزءا من الأزمة، أما في أحداث نيبال فالحالة كانت تسير في الاتجاه المعاكس، بمعنى أن حرمان النيباليين من الفرص على أرض الواقع والحياة وفقا لشروطها وظروفها، دفعهم إلى عالمهم الافتراضي الذي كان يستوعب جزءا من المشكلة، وعندما تهدد العالم المشيد من الوهم و(التسلي وليس التسلية)، تحول المجتمع إلى قنبلة انفجرت بصورة مفاجئة في وجه المنظومة بأكملها.

نسخة جديدة من الديمقراطية وتصورات مختلفة للعالم يتوجب حضورها عند التعاطي مع الجانب الافتراضي، الذي لم يعد مجرد مغامرة أو تلبية لفضول إنساني، بقدر ما أصبح جزءا غير منفصل من الحياة، فالبعض يشترون الإعجاب على مواقع التواصل من خلال تنازلات في مواقفهم، أو عملية تضليل ذاتي لاسترضاء فئات معينة، وأحيانا بمقابل مادي أو معنوي، مع أن كل الإشارات التي توضع على الحيطان الافتراضية لا تقدم شيئا في النهاية، ولا يمكن ترجمتها ماديا إلا لفئات محدودة ستصبح مع الوقت فاسدة، وتمارس التضليل الواسع مثلما يمارسه المسؤولون التقليديون، الذين يتحصلون على العمولات من الصفقات والعطاءات.

يبدأ عصر جديد من أعالي العالم، وبصورة يمكن أن تجرف العالم القديم بكل معطياته ومواقفه، وربما ليس من الحكمة أن تعتبر أحداث نيبال الأخيرة مجرد خبر آخر يشبه ما رأيناه من حالات اضطراب وفوضى سابقة في العالم، خاصة أن الكثيرين أخذوا يقارنون الحالة النيبالية بالظروف التي تحاوطهم في بلدان أخرى.

القدس العربي
التعليقات (0)

خبر عاجل