مقالات مختارة

كيف صنعنا حميدتي وكيف نتجنب إعادة إنتاجه؟

سامح المحاريق
صفحة الدعم السريع
صفحة الدعم السريع
توجد عواصم ومدن كبرى تتصف بالغرور والسلوك الإقصائي بطبيعتها، وربما تعد دمشق نموذجًا واضحًا لذلك، فالدمشقيون يعيشون في منظومة تراتبية معقدة يصعب على غير سكان المدينة فهمها، وتتعمق حالة الهرمية بالفرص التي يتحصل عليها أبناء المدينة، فالمدارس قريبة من مواقع سكنهم، والأعمال التجارية والمهنية يمكن أن تستوعبهم، ومع التوسع في المجتمع، كانت لهم الفرصة أن يتحولوا إلى تجار ومهنيين مؤثرين، ولذلك أتى العسكريون الذين يعبرون عن وضعية طبقية بعيدة عن هذه المكتسبات ورأوا في الجيوش العربية الحديثة فرصة للحراك الاجتماعي، وعلى الأقل، توفيرًا للعيش الكريم، من مدن هامشية وبعيدة، فهم يهبطون من جبال العلويين، ويأتون من تكريت أو المنوفية ليصبحوا الكتلة الصلبة للتحولات التي شهدتها الانقلابات التي تزيت بالصفة الثورية فيما بعد.

الخرطوم لم تكن مدينةً مغرورة على النمط الدمشقي أو أنماط عربية أخرى، فهي مدينة وظيفية فرضتها الجغرافيا ومجرى النهر لتكون مركزًا لحكم السودان الحديث الذي كان يلتهم مجموعة من الإمارات والممالك المحلية والمناطق القبلية الواسعة، ومع ذلك، مثلت فشلًا آخر في التنمية، فما الذي يمكن للسودانيين في مرحلة مبكرة من تأسيس دولتهم من السيطرة والاستفادة من مناطق شاسعة تحتاج من حيث المبدأ إلى بنية تحتية هائلة من أجل خلق التواصل بين أطرافها، وإلى ممارسات عتيدة في الديمقراطية والمشاركة السياسية للتعبير عن المجتمعات المحلية ودمجها في عملية بناء على أسس عادلة.

الاختلافات العميقة بين أهل الجنوب وبقية السودان من حيث التركيبة العرقية والدينية لم تكن قائمةً بين السودان النيلي وإقليم دارفور، ولكن الأخير استشعر بالمظلومية في علاقته مع الخرطوم والنخبة النيلية، وبدأت ثورته التي حاولت أن تستعيد إمارة دارفور القديمة بوصفها كيانًا يستحق أن يتواجد بصورة مستقلة وأن يستفيد من ثرواته بدلًا من توظيفها في خدمة المركز وأولوياته، ولم تتوقف الخرطوم عند أسباب التمرد في دارفور لتعتبره خروجًا على الشرعية التي لا تقف عند أي منجز حقيقي بقدر ما تستند إلى بنية خطابية فارغة لا يتلمس الناس آثارها ولا تنعكس على حياتهم.

من نواقص وعوار التنمية التي أخرجت جيوشًا تستوعب اختلالات طائفية أو جهوية لتمتلك السلطة وتنقلب على النخب التقليدية للمدن، أتى محمد حمدان دقلو الشهير بحميدتي الذي يفتقد للتعليم ويعمل في مهنة خطرة تتقاطع مع قوافل الجمال في الصحراء وما تخدمه من تجارة تهريب مشبوهة، ليتمكن من فرض اسمه في قمع التمرد ويصبح الرجل القوي في دارفور ويصبح في وقت لاحق أحد أركان السلطة في الخرطوم وأدواتها الجاهزة لتسوية أي تمرد يمكن أن ينشأ في أي موقع آخر.
مسيرة صعود حميدتي كانت في أحد وجوهها رحلة انحطاط الدولة في السودان

مسيرة صعود حميدتي كانت في أحد وجوهها رحلة انحطاط الدولة في السودان وافتقادها للرؤية وتخبط أولوياتها، ولأن الرجل أتى من الإقليم الغاضب أصلًا، قام بتوظيف معرفته وفطرته في السيطرة على الغضب وادخاره ليعيد إنتاجه لا ضمن تقاليد الدولة ولغاياتها ولكن للمحاصصة القائمة على فكرة الغزو والغنيمة التي يمكن أن يتقاسمها رجاله الذين أتوا عمليًا من خارج الزمن وحساباته، غرباء عن المكان ومفتقدين لحساسية شعورهم بتاريخه وعمقه وتراكمه، فهم كانوا قبل سنوات غير بعيدة أطفالًا هائمين يبحثون عن الفتات الذي يتبقى من الخرطوم وغيرها من المدن الكبرى، ولم يقفوا يومًا لتحية علم البلاد وترديد السلام الوطني صباحًا في مدرسة يمكن أن تؤهلهم للاندماج في مشروع وطني يصبح من الصعب عليهم نفسيًا ومعنويًا أن يوظفوا لتحطيمه بصورة عشوائية وهدامة ورغبة انتقامية يمكن لأي شخص مثل حميدتي أن ينفخ فيها المبررات المستمرة، وأن يتلاعب بالوعود لرجال لم يعرفوا من الدنيا إلا هامشًا فقيرًا ماديًا ومعتمًا معرفيًا.

تمردات الأقاليم تختلف عن ثورات المدن في أسبابها ونوازعها، وفي دارفور كانت المفارقة أن القبائل التي شكلت قوات الدعم السريع أو الجنجويد سابقًا كانت على هامش دارفور، وطرفًا في صراعات قديمة داخل الإقليم، وما فعلته السلطة المركزية في الخرطوم هو تقديم الدعم لطرف من أجل اخضاع طرف آخر، وصناعة وحش لتوظيفه في قمع التمرد، ولكن الطرف المستجد من الفراغ لم يكن أمامه سوى مادة خصبة لصناعة الفوضى، ليدخل في علاقة تشبه ما حدث بين فرانكشتاين والوحش الذي صنعه في الرواية الشهيرة.

الخروج من الخرطوم قبل أسابيع أدى إلى انكفاء دموي تجاه دارفور لتصبح المكافأة التي توضع أمام رجال الدعم السريع، ويعاد إنتاج الصراع ليتحول من صراع على السودان إلى قتل لفكرة السودان، وتأسيس كيان جديد ومضطرب لن تقتصر تكلفته على دارفور وأهلها الذين يواجهون الرعب في أقصى تجلياته والوحشية في كامل هيئتها، ولكنه سيصبح كيانًا مقلقًا ومكلفًا لما يتبقى من السودان ولدول أخرى مجاورة تترابط مصالحها مع ما يحدث في دارفور وما ستؤول له الأمور هناك.

كانت الانقلابات السورية والعراقية ملهمةً للانقلاب المصري في يوليو/تموز 1952 إلا أن الأخير في إعادة إنتاجه للثورة ورمزيتها أصبح النموذج المتنقل بين الدول العربية وفرض نموذجه الخاص الذي أصبح هاجسًا للدولة العربية في تصورها لنفسها ودورها وأبويتها ووصايتها، والتخوف الحقيقي اليوم، وبعد انفضاح الفشل في النموذج الأبوي المسيطر والمهيمن الذي يختبئ داخل المدينة المركزية وينصب اهتمامه على الجزء البارز من الصورة التي تقدم إلى العالم، هو أن تصعد الهوامش بتجارب مشابهة لحميدتي لتفرض نفسها، فما الذي تبقى من وعود الاستقلال والثورة؟

في الأحوال الطبيعية كان يمكن لحميدتي أن يصعد إلى مجلس نيابي ويحمل صوت مئات الآلاف من المستبعدين من التنمية وثمارها، من الفقراء الذين يجدون الصحراء ومخاطرها حلًا وحيدًا لشيء من الارتزاق.

ولكن الوضع المختل وانعدام الحلول دفعه ليعتبر الارتزاق من القوة والعنف وانعدام الرحمة والحساسية لمظاهر التآلف المجتمعي تعبيرًا عن التواجد، وبتلقيه الدعم الواسع من القوى التي تطمح لأن تتواجد في دارفور الثرية بالموارد غير المستغلة والتي كانت تغذي سابقًا المركز النيلي يتحول حميدتي إلى ظاهرة لم تتشكل اليوم.

والتخوف أن يصبح ملهمًا لغيره من أجل أن يحولوا الفشل في التنمية والتمثيل والمشاركة إلى عملية اختطاف للمكان ومحاولة تفكيكه وإعادة تركيبه ليصبح مجرد مورد كبير لسلطة تأتي بمظلومين سابقين لتحولهم إلى أمراء حرب يستفيدون من عوائد سيطرتهم وبحيث يصبح العنف والإفراط في استخدام القوة واستعراضها هو رأسمالهم الرمزي في ردة لعصور الظلام والفوضى في دول لم تتمكن من العبور بشعوبها إلى تكوينات لائقة بفكرة الدولة الحديثة التي يمكن أن تسوي أزماتها ومشكلاتها بطريقة متحضرة وسلمية قائمة على التفاوض والتفاهم.

حميدتي وحش فرانكشتاين الذي يفرض نفسه على الساحة العربية، وعلى الكثير من الدول أن تبحث عن تجسداته المختلفة وأن تتصرف قبل أن تلتهمها هاوية العنف والصراع على المكان والموارد.

القدس العربي
التعليقات (0)