مقالات مختارة

دولة الاحتلال: أعراض العلة السوفييتية الراجعة

مالك التريكي
جيتي
جيتي
قبل أعوام التقيت في داكار مع موظف يمثل إحدى وكالات الأمم المتحدة الإغاثيّة في فلسطين المحتلة، فما كدنا نتبادل بعض الحديث حتى قال لي، بدون تحفظ، ما معناه: إن العالم يقيم الدنيا ولا يقعدها كلما نفذ بعض الفلسطينيين عملية فدائية داخل إسرائيل، ولكن لو كان العالم يدرك حقا ما يكابده الفلسطينيون في كل لحظة وكل حين من قهر واضطهاد وإذلال ممنهج في كل جوانب معيشتهم لاندهش كيف أنهم يستطيعون تحمل كل ذلك الظلم بدون أن يمارسوا الكفاح المسلح باستمرار، بل كل يوم!

كانت هذه المحادثة هي أول ما استحضرته ذاكرتي لما قرأت في «القدس العربي» عن توجيه دولة الاحتلال تهمة التحريض على الإرهاب إلى السيدة حنين زعبي. بأي جريمة؟ أنها قالت إن ما فعله الغزاويون يوم 7 أكتوبر 2023 هو أنهم «دخلوا أراضيهم التي احتلت عام 1948». حقيقة تقريرية بلغ من بساطتها ووضوحها أن موشي ديان نفسه لم يتردد في النطق بها قبل سبعين سنة! وأصل القصة كما رواها الأستاذ وديع عواودة، نقلا عن يديعوت أحرونوت، أن فدائيين من غزة قتلوا عام 1956 جنديا إسرائيليا في مستعمرة «ناحل عوز» على أنقاض خربة الوحيدي، القرية الفلسطينية المهجرة في قضاء غزة عام 1948. فحضر قائد الجيش الإسرائيلي آنذاك موشي ديان وألقى كلمة تأبين قال فيها:

«بالأمس قُتل (الجندي) روعي. سكينة الصباح الربيعي بهرت عينيه فلم ير المتربصين به على حد الثلم في الحقل. فلا نَكيلَنَّ التهم اليوم للقتلة. كيف لنا أن نشكو كراهيتهم الشديدة لنا؟ ثماني سنوات وهم يقيمون داخل مخيمات اللاجئين في قطاع غزة بينما قبالة عيونهم نحول نحن أراضيهم وبلداتهم التي سكنوها هم وأجدادهم إلى مزارع لنا. علينا أن نطالب بدم روعي من أنفسنا لا من العرب في غزة. كيف أغمضنا عيوننا ولم نحدّق في مصيرنا لنرى وعد زماننا بكل قسوته؟ أَفَنسينا أن مجموعة الشباب هنا في كيبوتس ‘ناحل عوز’ تحمل على أكتافها بوابات غزة الثقيلة، بوابات تزدحم خلفها مئات آلاف العيون والأيدي المبتهلة من أجل ضعفنا، كي يتمكنوا من الظفر بنا ويمزقونا إربا إربا؟ هل نسينا؟»

صراحة نادرة من المستحيل أن يُلتمس مثلها اليوم لدى هذا الجيل البائس من الساسة والعسكريين الإسرائيليين. صراحة مناطها القدرة على مواجهة الحقائق وتحمل تبعاتها. والظاهر أنها لم تكن صراحة عابرة. ذلك أن مما يرويه وزير الخارجية البريطاني السابق دغلس هيرد (الذي يناهز عمره اليوم الخامسة والتسعين) أنه أدى أولى زياراته إلى إسرائيل في ديسمبر 1979، «فكان بيني وبين رئيس الحكومة مناحيم بيغن حديث ليس فيه ما هو جدير بالذكر، ثم جلسة أكثر إثارة للاهتمام مع الجنرال ديان (..) كان يبدو مريضا وعصابة العين السوداء الشهيرة تهتز على وجهه، وكان من الهزال بحيث لم يعد يملأ ثيابه. قال لي إن الرأي عنده أن تنسحب إسرائيل انسحابا أحاديا من الضفة الغربية، وألّا تترك إلا قوات حدودية، وأن تدع الفلسطينيين وشأنهم ليحكموا أنفسهم بأنفسهم».

عقّب هيرد، مخاطبا قارئ مذكراته، «يا ليت»…. ثم استطرد: «الآن سأستجمع شجاعتي وأكتب ما آل إليه موقفي من السياسات الإسرائيلية (..) لا أدري متى بدأ العالم الغربي يتحول من مقت اليهود بوصفهم قوم الربا وقتلة المسيح إلى شعور بالذنب للآلام التي أنزلها النصارى بهم. إذ رغم أن شكسبير يُجري بليغ القول على لسان شايلوك، فإن الغلبة كانت آنذاك لشعور المقت لا لشعور الذنب. أما محررو وعد بلفور (..) فقد كانوا واعين بدَيْن الندم على ذنب الاضطهاد القديم الذي ارتأوا إمكان سداده جزئيا بالسماح بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. وقد ثقُل عبء هذا الدَّيْن ثقلا مفرطا بفعل محنة اليهود في الهولوكوست (..) ولكن هل تُبوّئ هذه المحنة إسرائيل مقاما أخلاقيا متميزا بين الأمم؟

وهل تمنح إسرائيلَ حق رفض، أو تجنب، النقد على تصرفاتها، بما فيها ما تمارسه من أعمال الاضطهاد التي توجب الشجب لو مارستها دولة أخرى؟ (..) إن صور الدبابات الإسرائيلية وهي تواجه مراهقين مسلحين بالحجارة إنما تذكّر بصور الدبابات السوفييتية وهي تسحق المحتجين في برلين عام 1953 وبودابست عام 1956 وبراغ عام 1968. فلقد كان لهذه الصور دور في القضاء إلى الأبد على التعاطف الذي كان يحظى به الاتحاد السوفييتي بصفته حليفا سابقا للغرب وضحية للعدوان النازي».

القدس العربي
التعليقات (0)

خبر عاجل