قضايا وآراء

خطوة غير مسبوقة: كيف تحوّل قرار مايكروسوفت إلى نموذج للمساءلة التكنولوجية

محمود الحنفي
"كيف سمحت الشركة لنفسها، طوال سنوات، أن تقدّم لوحدة عسكرية تساهم في عملية الإبادة خدمات متقدمة بهذا القدر من الحساسية؟- إكس
"كيف سمحت الشركة لنفسها، طوال سنوات، أن تقدّم لوحدة عسكرية تساهم في عملية الإبادة خدمات متقدمة بهذا القدر من الحساسية؟- إكس
أثار إعلان مايكروسوفت وقف تقديم خدماتها لوحدة إسرائيلية متهمة باستخدام تقنيات الشركة في التجسّس والمراقبة جدلا واسعا في الأوساط الحقوقية والقانونية. فالقرار لا يُقرأ باعتباره مجرد إجراء تجاري أو تعبيرا عن موقف أخلاقي، بل باعتباره تحوّلا نوعيا في فهم العلاقة بين الشركات العملاقة وقضايا حقوق الإنسان، إذ يعيد رسم حدود المسؤولية ويفتح الباب أمام نمط جديد من الضغط لا يستند إلى العقوبات التقليدية، بل إلى أدوات تكنولوجية تمس حياة الأفراد مباشرة. وما يزيد هذه الخطوة ثقلا رمزيا وسياسيا أنها المرة الأولى التي تخضع فيها وحدة إسرائيلية لوقف خدمة من شركة أجنبية، ما يكشف أن "السيادة الرقمية" ليست مطلقة وأنها باتت عرضة لضغوط خارجية. بذلك تجد إسرائيل نفسها أمام نوع من العقوبات لا تفرضه الدول بل تفرضه شركة عملاقة تملك من النفوذ ما يجعلها قادرة على التأثير المباشر في بنيتها الأمنية، لينتقل الصراع الحقوقي من قاعات الأمم المتحدة إلى مراكز البيانات، ومن العقوبات الاقتصادية التقليدية إلى "العقوبات الرقمية" التي قد تكون أكثر إيلاما في عصر يعتمد فيه الأمن على السيطرة على الفضاء المعلوماتي.

أولا: القرار والخدمة المحورية للوحدة 8200

جاء قرار مايكروسوفت في أيلول/ سبتمبر 2025 بإنهاء وصول وحدة إسرائيلية إلى برمجياتها السحابية بعدما تبيّن أنها استُخدمت في تشغيل نظام مراقبة جماعية في غزة والضفة الغربية. ولم يكن هذا القرار مجرد بيان رمزي كما اعتادت الشركات، بل فعل ملموس أوقف خدمة حيوية عن طرف حكومي فاعل، وتكمن فرادته في أنها المرة الأولى التي تتخذ فيها شركة أمريكية بهذا الحجم خطوة مباشرة تمس مؤسسة أمنية إسرائيلية نتيجة اتهامات حقوقية، ما أضفى عليها بعدين متلازمين: بعدا رمزيا يكسر الصورة النمطية عن الشركات الكبرى المتغاضية عن الانتهاكات، وبعدا عمليا يترجم إلى ضغط حقيقي على أحد أركان البنية الأمنية الإسرائيلية.

وقف هذه الخدمات لا يظهر إذن كتعبير عن موقف حقوقي فحسب، بل كإجراء عملي يضرب في قلب البنية التقنية التي تمكّن الوحدة من تتبّع الأفراد والحركات ورسم الخرائط الرقمية للسكان، ويكشف في الوقت نفسه عن الدور الحيوي الذي تلعبه الشركات التكنولوجية في تمكين أو تعطيل أجهزة الاستخبارات في النزاعات المعقّدة

هذه الخطوة تزداد ثقلا حين ندرك طبيعة الخدمة الموقوفة نفسها. فقد كانت وحدة 8200، الذراع الاستخباراتي الرقمي الأبرز في الجيش الإسرائيلي، تعتمد على خدمات مايكروسوفت السحابية وبرمجياتها المتقدمة في إدارة وتحليل كميات هائلة من البيانات. ولم تكن هذه الخدمات مجرد أدوات مكتبية أو برامج عامة، بل وفّرت للوحدة قدرة على تخزين ومعالجة معلومات الاتصالات والمراقبة الميدانية وتحليلها في زمن شبه آني، الأمر الذي جعلها العمود الفقري لأنظمة المراقبة واسعة النطاق في غزة والضفة الغربية. وقف هذه الخدمات لا يظهر إذن كتعبير عن موقف حقوقي فحسب، بل كإجراء عملي يضرب في قلب البنية التقنية التي تمكّن الوحدة من تتبّع الأفراد والحركات ورسم الخرائط الرقمية للسكان، ويكشف في الوقت نفسه عن الدور الحيوي الذي تلعبه الشركات التكنولوجية في تمكين أو تعطيل أجهزة الاستخبارات في النزاعات المعقّدة.

ثانيا: من حدث فردي إلى نموذج متكرر

يبدو قرار مايكروسوفت بوقف خدماتها عن وحدة إسرائيلية لأول وهلة كأنه استثناء فرضته ضغوط إعلامية وحقوقية، لكنه في العمق يلمح إلى إمكانية ولادة نمط جديد من "العقوبات التكنولوجية" تمارسه الشركات العملاقة ضد الاستخدامات المنتهكة لحقوق الإنسان. فإذا ظلّ الحدث معزولا فسيسجَّل في خانة المبادرات الأخلاقية المؤقتة، أما إذا تبنّت شركات أخرى هذا المنطق فسنكون أمام انتقال فعلي للضغط الحقوقي من قاعات الحكومات إلى بنية البنى التحتية الرقمية نفسها، حيث تتحوّل أنظمة التشغيل والخدمات السحابية إلى ساحة من ساحات الضغط الحقوقي. ولكي يتحول ذلك إلى نموذج مستدام، لا بد من قواعد واضحة للعناية الواجبة وتقييم الأثر الحقوقي وشفافية أكبر في العقود الحكومية، بحيث يصبح وقف الخدمة أو تقييدها ليس مبادرة طوعية بل التزاما معلنا يحكم تعامل الشركات مع الجهات الأمنية. بهذا الشكل يكتسب قرار مايكروسوفت أهميته؛ فهو يفتح الباب لتقنين المساءلة التكنولوجية ويعطي إشارة مبكرة إلى أن الفضاء الرقمي لم يعد منطقة محصنة من الرقابة الحقوقية.

ثالثا: كيف سمحت مايكروسوفت لنفسها بذلك؟

يطرح قرار مايكروسوفت سؤالا مقلقا يتجاوز اللحظة الراهنة: كيف سمحت الشركة لنفسها، طوال سنوات، أن تقدّم لوحدة عسكرية تساهم في عملية الإبادة -سواء في وقتنا الراهن أم خلال الحروب السابقة- خدمات متقدمة بهذا القدر من الحساسية؟ إن العقود التي أبرمتها مع الوحدة 8200 لم تكن استثناء، بل جزءا من سياسة عالمية تتيح لأي جيش أو جهاز أمني الحصول على خدماتها السحابية وبرمجياتها المتطورة مقابل بدل مالي وبشروط تجارية بحتة، من دون ضوابط فعّالة تتعلق باستخدام هذه الخدمات في عمليات قد تنتهك حقوق الإنسان. هذه الثغرة تكشف عن خلل جوهري في منظومة "العناية الواجبة" داخل الشركات العملاقة، حيث يجري التعامل مع الجيوش والحكومات كزبائن عاديين، في حين أنها قد تكون في موقع الطرف المعتدي أو المنتهك للحقوق. ومن هنا يكتسب قرار مايكروسوفت الأخير معنى مضاعفا: ليس مجرد وقف خدمة، بل اعتراف ضمني بأن استمرارها السابق كان خللا أخلاقيا وقانونيا يستدعي المراجعة ويؤكد الحاجة إلى قواعد دولية واضحة تميّز بين الاستخدامات المشروعة وغير المشروعة للتكنولوجيا؛ حتى عندما يكون العميل جيشا نظاميا.

رابعا: توسيع الأفق إلى شركات أخرى

قرار مايكروسوفت يسلّط الضوء بقوة على بقية شركات التكنولوجيا العملاقة مثل جوجل وأمازون وآبل و"Meta" التي تقدم خدمات لا تقل حساسية عن خدمات مايكروسوفت في مجالات التخزين السحابي، والذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات البيومترية، والاتصالات المشفرة. والسؤال هنا لا يقتصر على ما إذا كانت هذه الشركات ستتخذ خطوات مماثلة في حال ثبوت استخدام منتجاتها في انتهاكات حقوق الإنسان، بل يمتد إلى طبيعة مسؤوليتها المسبقة عن فحص هذه الاستخدامات قبل إبرام العقود أو تقديم الخدمات. إن التفكير في إطار جماعي يُلزم هذه الشركات بالمعايير الحقوقية يفتح الباب أمام فكرة "قانون تكنولوجيا حقوقي"، على غرار قانون تجارة الأسلحة، يضع قيودا محددة على تصدير أو ترخيص تقنيات المراقبة وأنظمة الذكاء الاصطناعي للأجهزة الحكومية أو الأمنية. عندها لا يكون وقف الخدمة أو تقييدها رد فعل طارئا، بل جزءا من منظومة دولية منظمة تجعل خرق هذه المعايير سببا للمساءلة أمام المحاكم أو الهيئات الدولية. هذا التوجه من شأنه أن يحوّل الفضاء الرقمي من ساحة فراغ تشريعي إلى مجال خاضع للقواعد والرقابة الحقوقية، ويُعيد تعريف العلاقة بين التكنولوجيا والسيادة بحيث تصبح الشركات الكبرى طرفا مسؤولا عن منع انتهاكات الحقوق بدلا من أن تكون مجرد مزوّد محايد للخدمات.

خامسا: المسؤولية المشتركة للدول والشركات

لا يمكن فصل مسؤولية الشركات عن مسؤولية الدول، فالدولة التي تبرم عقدا مع شركة تقنية تتحمل بدورها جزءا من المسؤولية إذا استُخدمت تلك التقنية في ارتكاب انتهاكات جسيمة. هذا يفتح نقاشا أعمق حول مفهوم "السيادة الرقمية المشتركة"، حيث لا تعود التقنية مجرد سلعة بل تتحول إلى بنية سيادية تفرض التزامات حقوقية على كل من ينتجها أو يستخدمها. هنا يتقاطع القانون الدولي لحقوق الإنسان مع القانون التجاري الدولي ليضع أطرا جديدة تحمّل الدول واجب التحقق من التزامات شركائها، وتحوّل الشركات إلى أطراف لا يمكنها الاحتماء خلف منطق السوق البحت أو خلف عقود تجارية مغلقة.

هذا الأفق المستقبلي يجعل قرار مايكروسوفت أكثر من خطوة عابرة؛ إنه إشارة إلى تحوّل أعمق في أدوات الضغط الحقوقي. فالحدث يكشف أن الشركات العابرة للحدود لم تعد كيانات محايدة، بل أطرافا تتحمل مسؤوليات فعلية في حماية الحقوق أو انتهاكها

وتنبثق من ذلك أسئلة نقدية صريحة: لماذا تقف دول منشأ هذه الشركات موقف الحياد في صفقات بهذا الحجم، مع أنها غالبا تمنح تراخيص تصدير أو تسمح بالتعاقد؟ ولماذا لم تشرف على العقود التي أُبرمت مع جهات أمنية تعمل في بيئات نزاعية، بل تركت الشركات تزوّدها بتقنيات قد تُستخدم في القتل والمراقبة الجماعية والإبادة؟ وهل يمكن لدولة أن تسمح لشركة تعمل تحت قوانينها بأن تصبح شريكا غير مباشر في انتهاك حقوق الإنسان؟ هذه التساؤلات تكشف أن مسؤولية الدول لا تقل عن مسؤولية الشركات؛ فهي مطالَبة بوضع آليات رقابة فعالة على تصدير التكنولوجيا واستخدامها، وبإقرار تشريعات واضحة تمنع استغلال منتجاتها في انتهاكات جسيمة، بحيث يصبح الامتناع عن التدخل أو الصمت تواطؤا وليس حيادا.

سابعا: السيناريوهات المستقبلية ونحو خطاب حقوقي جديد

من قرار مايكروسوفت يمكن استشراف ملامح مشهد حقوقي رقمي جديد، فقد نشهد في المدى القريب تحالفات بين شركات كبرى تفرض عقوبات تكنولوجية جماعية على الدول التي تستخدم منتجاتها في انتهاكات، في ما يشبه العقوبات المالية لكن في مجال التقنية. وقد تتبلور على المستوى الدولي معاهدات تقيد تصدير تكنولوجيا المراقبة على غرار معاهدات حظر الأسلحة الكيميائية أو الألغام الأرضية، فتتحول التكنولوجيا من سوق حرة إلى مجال منظم يخضع لضوابط حقوقية. وفي هذا السياق يمكن أن يبرز مفهوم "الحقوق التقنية" في القانون الدولي، أي حق الأفراد في الحماية من التدخل الحكومي عبر أدوات رقمية، باعتباره حقا آمرا لا يقل عن الحق في الحياة أو الحرية. وعلى المدى الأبعد قد نرى إنشاء آليات دولية لمساءلة الشركات التكنولوجية مباشرة، سواء أمام مجلس حقوق الإنسان أو أمام هيئات جديدة متخصصة تواكب طبيعة الانتهاكات العابرة للحدود.

هذا الأفق المستقبلي يجعل قرار مايكروسوفت أكثر من خطوة عابرة؛ إنه إشارة إلى تحوّل أعمق في أدوات الضغط الحقوقي. فالحدث يكشف أن الشركات العابرة للحدود لم تعد كيانات محايدة، بل أطرافا تتحمل مسؤوليات فعلية في حماية الحقوق أو انتهاكها. وهذا يفرض على المدافعين عن حقوق الإنسان أن يوسّعوا ساحات عملهم من مخاطبة الحكومات إلى مخاطبة مجالس إدارات الشركات، وأن يطوّروا استراتيجيات جديدة تستوعب القوة المتنامية للقطاع التكنولوجي. وإذا ما جرى البناء على هذه الخطوة، فإن قرار مايكروسوفت قد يكون نقطة انطلاق لخطاب حقوقي جديد يدمج بين الحوكمة الرقمية والمساءلة الدولية، ويمنح الأفراد حماية أوسع في عالم يتداخل فيه السلاح التقليدي مع السلاح الرقمي.
التعليقات (0)

خبر عاجل