أفكَار

الأرمن في لبنان.. تجربة الأقلية الفاعلة في قلب النظام الطائفي

ترمز قصة الأرمن في لبنان إلى تجربة إعادة البناء المتكرّر: من النجاة واللجوء إلى تأسيس أحياء ومدن، ومن الحياد الإيجابي زمن الحرب إلى الانخراط الواقعي في الدولة ومؤسّساتها.
ترمز قصة الأرمن في لبنان إلى تجربة إعادة البناء المتكرّر: من النجاة واللجوء إلى تأسيس أحياء ومدن، ومن الحياد الإيجابي زمن الحرب إلى الانخراط الواقعي في الدولة ومؤسّساتها.
يشبه لبنان متحفاً حيّاً للطوائف، وفسيفساء مذهبية فريدة من نوعها في محيطه العربي. وقد اتسم تاريخه بالتداخل بين الدين والسياسة، والصراعات على النفوذ وحفظ الهوية، ما جعل منه حالةً فريدةً في الشرق الأوسط، أو ربما استثناءً تاريخياً في تشكيله الطائفي المتنوّع الذي يتجاوز الصورة التقليدية لطوائفه الكبرى المعروفة، والتي لعبت أدواراً محورية منذ استقلاله، مروراً بالحرب الأهلية، وصولاً إلى مرحلة ما بعد الطائف. إذ تختزن ذاكرة هذا البلد الصغير تنوعاً مذهلاً لطوائف ومذاهب، بقي بعضها مجهولاً للكثيرين، تُشكّل جزءاً لا يتجزأ من نسيجه الاجتماعي والثقافي والتاريخي. وفي ظلّ تجاهل إعلاميّ معتاد، بقيت هذه الطوائف في الظلّ، رغم ما تحمله من إرث غنيّ وقصص غير مروية، ودورٍ لا يُستهان به في تشكيل الهُوية اللبنانية، والتأثير على المشهد السياسي والاجتماعي.

من هنا، يخصص موقع "عربي 21" سلسلة مقالات بعنوان "لبنان متحف طوائف الشرق الأوسط" وخصص هذه الحلقة لطائفتَي الأرمن الكاثوليك والأرمن الأرثوذكس، في محاولةٍ جادة وعميقة لإلقاء الضوء على هذه الطوائف، واستكشاف خصائصها وتاريخها وتراثها، والتعرف إلى الدور الذي لعبته وتلعبه اليوم في الواقع اللبناني، بعيداً من الصور النمطية والأحكام المسبقة. هذه السلسلة ليست مجرد بحثٍ معرفي، بل هي جولةٌ بين مكوّنات مجتمعٍ زاخر بالتنوع، لا يزال رغم صراعاته قادراً على البقاء كأحد أغنى نماذج التعددية في الشرق الأوسط.

شكّلت طائفتا الأرمن في لبنان، الكاثوليك والأرثوذكس، جماعة متماسكة مؤسّساتياً وثقافياً، ورافداً مستمراً للحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية. وبرغم أن الأرمن عموماً يمثلون أقل من 1% من إجمالي سكان لبنان، ومن أنهم ليسوا جماعة دينية مستقلة وينتمون جميعاً إلى الديانة المسيحية فقد اعتُبروا "طائفة" لأن الكلمة في أصلها تعني "جماعة اعترافية"، وفي لبنان على وجه الخصوص تعني جماعة لها مؤسساتها وقوانين أحوالها الشخصية وتمثيلها في النظام العام ولذلك فإن الأرمن في لبنان مسجَّلون رسميّاً كـ طائفتين منفصلتين في النظام الطائفي اللبناني: الأرمن الأرثوذكس وهم الكتلة الأكبر عدداً بين أرمن لبنان، والأرمن الكاثوليك.

الخصائص الاجتماعية والدينية

تشكلت طائفتا الأرمن في لبنان مع موجات الهجرة الكبرى من أرمينيا في أعقاب الاقتلاع القسري بحقهم الذي بلغ ذروته عام 1915 خلال الحرب العالمية الأولى. فحظي الأرمن الوافدون إلى لبنان باحتضان شعبي واندمجوا في المجتمع المضيف فأنشأوا أحياءً وكيانات ثقافية ودينية، وساهموا في النشاط الاقتصادي من خلال حرفيين ماهرين، وصناعيين كبار، وتجّار مخضرمين، وفنانين ومدرّسين وأطباء ومهندسين فحجزوا لنفسهم مكاناً داخل منظومة التعدد اللبنانية. وإذا كانت أعداد الأرمن قد نمت باضطرادٍ خلال القرن العشرين حتى وصلت إلى 200 ألف نسمة، فإنّ تقديرات السفارة الأرمينية راهناً تتراوح بين 40 و60 ألفاً بعد موجات الهجرة الناجمة عن الأزمات التي عصفت بلبنان، ما يجعل النقاش حول الحضور الأرميني اليوم متّصلاً بملفات الأمن والاقتصاد والسياسة.

أصبح الأرمن مواطنون لبنانيون يتساوون بالحقوق والواجبات مع سائر أبناء الطوائف اللبنانية، ويتوزّعون ديمغرافياً في برج حمّود (قضاء المتن) بوصفها أولى المناطق الساحلية التي استضافت الهاربين من المجازر العثمانية والتي تعدّ من أبرز الضواحي الشرقية لبيروت وتحوّلت بفضلهم إلى القلب التجاري والحِرفي لساحل المتن، كما ينتشرون في أنطلياس وبكفيا (المتن) والأشرفية (بيروت) وزحلة (البقاع)، وفي بلدة عنجر (سهل البقاع).
علماً أن معظم الأرمن في لبنان حصلوا على الجنسيّة خلال حقبة الانتداب الفرنسي، على ثلاث مراحل:

ـ المرحلة الأولى: أصدر الانتداب الفرنسي على لبنان قرار الجنسية الرقم 15 في 19 كانون الثاني/يناير 1925، الذي نص على منح الجنسية اللبنانية للأرمن وإعطائهم حق الاقتراع.

ـ المرحلة الثانية: مع الإحصاء السكاني الرسمي الذي أُجري عام 1932 جرى تسجيل وتجنيـس فئات من اللاجئين الوافدين من "الأراضي التركية" وكان من بينهم آلاف الأرمن، وهو ما حَسَم أوضاع عشرات الآلاف وأكمل إدماجهم القانوني

ـ المرحلة الثالثة: عندما ضُمّ لواء الإسكندرون إلى تركيا عام 1939، نُقل آلاف الأرمن من جبل موسى (موسى داغ) إلى لبنان وتحديداً إلى بلدة عنجر في البقاع وتم تجنيسهم جماعياً بقرار من الانتداب الفرنسي.

وبذلك أصبح الأرمن مواطنون لبنانيون يتساوون بالحقوق والواجبات مع سائر أبناء الطوائف اللبنانية، ويتوزّعون ديمغرافياً في برج حمّود (قضاء المتن) بوصفها أولى المناطق الساحلية التي استضافت الهاربين من المجازر العثمانية والتي تعدّ من أبرز الضواحي الشرقية لبيروت وتحوّلت بفضلهم إلى القلب التجاري والحِرفي لساحل المتن، كما ينتشرون في أنطلياس وبكفيا (المتن) والأشرفية (بيروت) وزحلة (البقاع)، وفي بلدة عنجر (سهل البقاع).

وينتظم الأرمن في لبنان في ثلاث عائلات كنسيّة رئيسية:

ـ الأرمن الأرثوذكس (الرسوليّون) وهم مسجلون كطائفة مستقلة في الدولة اللبنانية، ويتخذون من كاثوليكوسية "بيت كيليكيا" مرجعاً لهم ومقرها في مدينة أنطلياس منذ العام 1930، وهو مقرّ ذو رمزية روحية وسياسية لامتدادات واسعة من الشتات الأرميني.

ـ الأرمن الكاثوليك وهم أيضاً مسجلون كطائفة مستقلة في الدولة، ويرأسهم بطريرك كيليكيا للأرمن الكاثوليك، ومقرّه التاريخي في بلدة بزمار (كسروان)

ـ الأرمن الإنجيليون وينضوون تحت الطائفة الإنجيلية التي سنخصص لها مقالاً آخر (لا يُعتبرون طائفة أرمينية ثالثة)، ويتخذون من "اتحاد الكنائس الإنجيلية الأرمينية في الشرق الأدنى" مرجعاً لهم ومقره بيروت. وتشمل مؤسّسات الاتحاد عدداً من الجمعيات ومؤسسات الخدمات الاجتماعية والمؤسسات التعليمية، أبرزها جامعة هايكازيان (1955)، ويُعتقد أنها الجامعة الأرمينية الوحيدة في دول الشتات.

وبرغم اندماج الأرمن في الحياة الاجتماعية والوطنية وانتماء أعداد كبيرة منهم للأحزاب اللبنانية المختلفة، ما تزال الأحزاب الأرمينية المنشأ فاعلةً في لبنان وهي تمثل امتداداً أو فرعاً للحزب الأم:

ـ حزب الطاشناق (الاتحاد الثوري الأرميني): هو حزب عابر للحدود تأسّس عام 1890 في تيفليس (الاسم التاريخي لمدينة تبليسي، عاصمة جورجيا الحالية) ثم انتشرت فروعه في دول الشتات، ويُعدّ لبنان من أقوى ساحاته التنظيمية. ترتكز هويته الفكرية/العقائدية على القومية الأرمينية وعلى النظام الاشتراكي الديمقراطي. يُعدّ حزب الطاشناق الأقوى تمثيلاً داخل المجتمع الأرميني اللبناني. 

ـ حزب الهنتشاق (الحزب الديمقراطي الاجتماعي): هو أقدم حزب أرميني مستمرّ، أسّسه طلّاب أرمن اشتراكيون في جنيف عام 1887 وانتقل نشاطه إلى بلدان الشرق ثم بلدان الشتات ومنها لبنان وترتكز هويته الفكرية/العقائدية على الاشتراكية إذ حمل رؤية ماركسية أممية لكنه تطوّر إلى يسار ديمقراطي.

ـ حزب الرامغافار (الحزب الليبرالي الديمقراطي الأرميني): هو امتداد الحركة الأرمنَكانية (حركة سرية نشأت في ولاية فان سنة 1885) في دول الشتات. تأسّس بصيغته الحديثة في اسطنبول عام 1921، وترتكز هويته الفكرية على الليبرالية القومية الأرمينية ويميل إلى العمل المؤسسي والثقافي والتعليم والتنظيم والدفاع الذاتي المحلي في دول الشتات.

هذه الأحزاب ساعدت الأرمن لتعزيز حضورهم في النقابات والمؤسسات التعليمية والإدارة العامة والجيش، فيما حافظت الكنائس الأرمينية على استقلالية نسبية عن السياسة اليومية، تاركةً للأحزاب إدارة الشأن السياسي، مع احتفاظها بسلطة معنوية جامعة. وقد تميّز البرلمان اللبناني باعترافه المبكّر بالإبادة التي تعرض لها الأرمن تحت الحكم العثماني عام 1915 والتي تحوّلت إلى "عقدٍ تأسيسي" لهويّةٍ جماعيةٍ تشكّلت حول جرحٍ وجودي، وبات سعي الأرمن حول العالم للحصول على اعتراف بها حقاً أخلاقياً وقانونياً في آنٍ معاً، لإنصاف الضحايا وردع التكرار. واعتمد لبنان يوم 6 كانون الثاني يناير يوم عطلة رسمية سنوية وهو التاريخ الذي يحتفل خلاله الأرمن بعيد الميلاد (بحسب التقويم الكنسي الشرقي) وكل ذلك يشكل علامةً على رسوخ المكوّن الأرميني ضمن الحياة العامة وإدماج خصوصيته في الروزنامة الوطنية.

ويعتمد العديد من الأرمن على مدارسهم الوطنية لتعليم اللغة الأرمينية وهي سمة تميزهم عن سائر الأقليات في لبنان إذ يصرون على التحدث بلغتهم وتعليمها للأجيال المتعاقبة ويصفونها بحبل الصرة الذي يربطهم بالوطن الأم. كما يحافظون على الموروث الثقافي والفني كالموسيقى والمسرح والمطبخ التقليدي. ويتابعون المؤسسات الإعلامية الخاصة بهم مثل راديو فان الذي يبث برامجاً باللغات الأرمينية والعربية بشكل أساسي، بالإضافة إلى إصدارات صحافية يومية تمثّل الأحزاب الثلاثة: "آزتاك" (قريبة من الطاشناق)، "أراراد" (قريبة من حزب الهنتشاق)، و"زارتونك" (قريبة من حزب رامغافار). وتمثّل هذه المؤسسات، إضافة إلى الأندية الكشفية والرياضية، آليات حفظ اللغة والهوية عبر الأجيال.

الدور التاريخي والتمثيل السياسي

لم يكن للأرمن دور مباشر في تأسيس الجمهورية اللبنانية والحصول على الاستقلال، غير أنهم شاكوا في الحياة السياسية في مرحلة مبكرة من تاريخ لبنان الحديث ودخلوا تحت قبة البرلمان منذ دورات ما قبل الخمسينيات، واستمرّ حضورهم بعدها، ما يؤكد مشاركتهم صناعة القرار واندماجهم في لعبة التمثيل الطائفي مع مختلف القوائم والتحالفات. وتُجمِع مراجع عديدة على أن لبنان  تحوّل بعد العام 1943 إلى أهمّ موطن عربي للشتات الأرميني، ومعه ترسّخ حضور الأرمن ونفوذهم فخاضت أحزابهم الرئيسة (الطاشناق والهنتشاق والرامغافار) الانتخابات وتكتّلت مع قوى لبنانية كبرى، وبرز نوابٌ وفاعلون أرمن في كل دورة تقريبًا.

وكان أوّل وزير أرميني في تاريخ الجمهورية اللبنانية، هو جوزف شادر الذي عُيّن وزيرًا للتخطيط في حكومة سامي الصلح في آذار مارس 1958، في خضم الأزمة السياسية – الأمنية التي نشبت بين الرئيس كميل شمعون ومعارضيه، بعدها عاد شادر وشارك بصفة وزير دولة في حكومة تقي الدين الصلح عام 1973، وهي محطات ترمز إلى مشاركة الأرمن الفاعلة في السلطة التنفيذية.

وتُظهر بعض الدراسات أنّ انتخابات العام 1957 ثم أزمة 1958 كانتا مفصلًا صاغ فيه الأرمن تموضعهم داخل النظام: شاركوا وتوسّطوا وتحالفوا، وأسهموا في عودة الاستقرار ضمن منطق "الحياد الإيجابي" وصيانة مؤسساتهم، لا منطق العزلة عن الدولة.

لم يكن للأرمن دور مباشر في تأسيس الجمهورية اللبنانية والحصول على الاستقلال، غير أنهم شاكوا في الحياة السياسية في مرحلة مبكرة من تاريخ لبنان الحديث ودخلوا تحت قبة البرلمان منذ دورات ما قبل الخمسينيات، واستمرّ حضورهم بعدها، ما يؤكد مشاركتهم صناعة القرار واندماجهم في لعبة التمثيل الطائفي مع مختلف القوائم والتحالفات.
لاحقاً، وخلال الحرب الأهلية في لبنان، حافظت القوى الأرمينية على شعار "الحياد الإيجابي" خلافاً لصورة "الاصطفاف" التي وسمت أطرافاً أخرى فامتنع الأرمن عن الانخراط الهجومي في القتال وأنشأوا وحدات دفاعٍ محليّة لحماية الأحياء والمؤسسات والطرق الحيوية داخل المناطق التي يتواجدون فيها، وبخاصةٍ في برج حمّود. لكن الحياد لم يُجنّب الأرمن محاولات الضغط العسكري. ففي أيلول سبتمبر من العام 1979 دارت اشتباكات عنيفة في محيط برج حمّود بين مجموعات من الكتائب ووحداتٍ دفاعية قريبة من الطاشناق، وانتهت ببقاء سيطرة الطاشناق على الأحياء الأرمينية لكن مع وقوع خسائر بشرية. وجاءت تلك المواجهات في سياق سعي القوى المسيحية ولا سيما الكتائب لبسط نفوذ موحّد على "بيروت الشرقية" وضواحيها.

ويُذكر أنّ بعض التنظيمات الأرمينية العابرة للحدود، مثل "الجيش الأرميني السري لتحرير أرمينيا"  ASLA نشطت في بيروت لفترة قصيرة أواخر الثمانينات ونفّذت عمليات استهدفت مصالح تركية، من أجل الضغط على تركيا للاعتراف بارتكابها مجازر بحق الأرمن، غير أنّ تلك الأنشطة العدائية سرعان ما توقفت ولم تؤثر على النهج السياسي في الداخل اللبناني، بل بقيت قضية العلاقة مع تركيا والإبادة مجالاً نضالياً خارج المعادلة اللبنانية المباشرة.

بعد اتفاق الطائف (1989) ومع تفكك الميليشيات وتوحيد الجيش، انتقلت القوى الأرمينية إلى إعادة البناء المؤسسي والمدني، وبدأت تتأقلم مع النظام السياسي الجديد، ومع جغرافيا سكانية متغيّرة بفعل النزوح والهجرة وإعادة الإعمار. وقد دفعت التجربة بالحزب الأرميني الأكبر (الطاشناق) لاعتماد سياسة العلاقات المتوازنة مع أقطاب الداخل والخارج لحماية المصالح المباشرة (المؤسسات، الخدمات، البلديات) أكثر من خوض معارك طائفية أو أيديولوجية.

ولعل أبرز أبرز النواب والوزراء الأرمن خاتشيك بابيكيان الذي يُعدّ من الأعمدة التاريخية للتمثيل الأرمني، سورين خان اميريان، يغيا جريدجيان، هاغوب شوخداريان، شاهيه برصوميان، وسيبوه هوفنانيان، هاغوب قصّارجِيان، هاغوب بقرادونيان.

راهناً، وبعد عقود من العمل السياسي الحذر، يتمثل الأرمن بـ 6 مقاعد نيابية ثابتة (من أصل 128 مقعداً): 5 للأرمن الأرثوذكس (الرّسوليين) و1 للأرمن الكاثوليك وفي بعض الأحيان يشغل نائبٌ أرميني المقعد الإنجيلي الوحيد في بيروت (رغم أنه ليس ضمن الحصّة الأرمينية القانونية)، فيرتفع عدد النواب الأرمن فعلياً إلى 7 في بعض الدّورات. وعلى صعيد السلطة التنفيذية، يحصل الأرمن عرفاً على تمثيل وزاري (غالباً وزير واحد، وفي الحكومات الموسّعة وزيران) وهذا ما يجعل الحضور الأرميني بنيوياً في آلية الحكم المعقدة في لبنان.

بعد العام 2005 الذي يُعدّ عاماً مفصلياً في الحياة السياسية في لبنان، بفعل اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري وخروج الجيش السوري من لبنان، نسج الطاشناق تحالفاتٍ مع قوى عدّة لا سيما "التيار الوطني الحر" مع حرصٍ على إبقاء قنوات تواصل مع أطراف أخرى ولا سيما تلك التي كانت متعاونة – تاريخياً – مع الأرمن مثل آل المرّ في المتن وآل فتوش وآل سكاف في زحلة؛ فيما توزّعت خيارات الهنتشاق ورامغافار بين اصطفافات مختلفة بحسب الدوائر.

الواقع والتحدّيات

مع تراجع أعداد الأرمن المقيمين في لبنان، بسبب الهجرة والبحث عن معيشة أفضل، يُعدّ الإبقاء على التمثيل الوزاري والحصّة النيابية تحدّياً مركّباً. فمن جهةٍ يضمن نظام المحاصصة عدد المقاعد بغض النظر عن التقدّم أو التراجع العددي، لكنه يجعل الأحزاب أمام واجب تجديد الخطاب وتوسيع الشراكات العابرة للطوائف، خصوصاً داخل الدوائر الانتخابية المختلطة، بالإضافة إلى واجب تحديث إدارة الخدمات البلدية والنقابية لكسب الشرائح الشبابية المتعلّمة التي تحوّلت أولوياتها من قضايا الهوية والانتماء إلى فرص العمل والأمن المعيشي.

اليوم، بعد عقدٍ من الأزمات المتراكمة، تبدو الطائفتان أمام مفترق طرق: إما أن تُحوّلا انحسار العدد إلى دافعٍ لتجديد المؤسّسات وتثبيت مكانة الثقافة واللغة ضمن الفضاء اللبناني العام، وإما أن تنحوا نحو ضمورٍ بطيء.
فالأزمة المالية ـ النقدية التي عصفت بلبنان منذ العام 2019 أضرّت بمصالح أبناء الطائفتين الأرمينيتين أسوةً بغيرهما، وضربت قلب الاقتصاد الحِرَفي في برج حمّود والأشرفية حيث تتركّز ورش المجوهرات والألبسة والخشب والمطاعم والمعامل الصغيرة. ثم جاء انفجار 4 آب/أغسطس 2020 ليطيح بممتلكات ومصالح ومؤسسات تعليمية وثقافية، ويُفاقم نزيف الهجرة، ولا سيما بين الشباب. لهذا تبدو الأرقام اليوم قاسية: من مجتمعٍ قُدّر سابقاً بأكثر من 200 ألف وجذب إليه الأرمن من سوريا وفلسطين، إلى تقديرات حديثة في حدود 40 ـ 60 ألفاً داخل لبنان، مع نزيف مستمر نحو كندا وفرنسا والولايات المتحدة ودولٍ أخرى.

في الخلاصة، ترمز قصة الأرمن في لبنان إلى تجربة إعادة البناء المتكرّر: من النجاة واللجوء إلى تأسيس أحياء ومدن، ومن الحياد الإيجابي زمن الحرب إلى الانخراط الواقعي في الدولة ومؤسّساتها. واليوم، بعد عقدٍ من الأزمات المتراكمة، تبدو الطائفتان أمام مفترق طرق: إما أن تُحوّلا انحسار العدد إلى دافعٍ لتجديد المؤسّسات وتثبيت مكانة الثقافة واللغة ضمن الفضاء اللبناني العام، وإما أن تنحوا نحو ضمورٍ بطيء.
التعليقات (0)

خبر عاجل