منذ
اندلاع حرب
غزة الأخيرة، تحولت جلسات
مجلس الأمن إلى ساحة تعكس اختلال ميزان القوى
في النظام الدولي. فبينما صوتت أغلبية الدول لصالح وقف فوري وغير مشروط لإطلاق
النار، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية، وإطلاق الأسرى، وقفت الولايات المتحدة
في موقع المعطل، مستخدمة
الفيتو للمرة السادسة، لتؤكد أن حماية
إسرائيل ما زالت
أولوية تتقدم على أي اعتبار إنساني أو قانوني. هذا السلوك أثار تساؤلا مركزيا:
لماذا تصر واشنطن، وهي التي تقدم نفسها حامية للقيم العالمية وقائدة للنظام
الدولي، على تحدي إرادة المجتمع الدولي بأسره؟ الجواب لا يقتصر على تفاصيل الصراع
الفلسطيني الإسرائيلي، بل يمتد إلى بنية العلاقات الدولية التي صاغتها القوة
الأمريكية منذ نهاية الحرب الباردة، حيث صار الفيتو أداة استراتيجية لحماية النفوذ
الأمريكي عبر إسرائيل.
إن
استدعاء التاريخ يكشف أن استخدام الولايات المتحدة للفيتو في القضية الفلسطينية لم
يكن يوما مجرد رد فعل على نصوص بعينها، بل ممارسة متجذرة منذ سبعينيات القرن
الماضي. ففي عام 1972 لجأت واشنطن لأول مرة إلى الفيتو لإسقاط مشروع قرار يدين
العمليات العسكرية الإسرائيلية في لبنان وسوريا، ومنذ ذلك الحين تحول الفيتو إلى
سلاح دائم لتعطيل أي قرار يفرض التزامات على إسرائيل. وقد تجلى هذا النمط بوضوح في
محطات مفصلية مثل حرب لبنان (1982) والانتفاضة الفلسطينية الأولى، حيث تدخلت
الولايات المتحدة مرارا لحماية إسرائيل من الإدانة الدولية.
متابعة السياسات الأمريكية تكشف أن الهدف الحقيقي هو ضمان استمرار حرية إسرائيل في العمل العسكري وعدم تقييدها بقرارات دولية ملزمة
ومع مرور العقود، أصبح
الفيتو عرفا سياسيا ثابتا تتبناه الإدارات الأمريكية المتعاقبة، سواء كانت
ديمقراطية أو جمهورية، ما يعكس أن الانحياز لإسرائيل خيار استراتيجي لا يخضع
للمراجعة. وهكذا، فإن الفيتو السادس في شأن غزة ليس إلا حلقة جديدة في هذا المسار
التاريخي الطويل الذي يربط شرعية النظام الدولي بإرادة القوة الأمريكية.
لقد تطور
التحالف الأمريكي الإسرائيلي من مجرد دعم سياسي ودبلوماسي إلى علاقة استراتيجية
متكاملة تشمل الأمن والعسكر والاقتصاد والتكنولوجيا. في البداية كان الدعم يقوم
على مبررات أخلاقية متصلة بالمحرقة، لكنه سرعان ما تحول إلى ركيزة أساسية في سياسة
واشنطن الشرق أوسطية. ومع حرب 1967 ثم حرب 1973، اكتشفت الولايات المتحدة أن
إسرائيل تمثل أداة ضرورية لحماية مصالحها ولضبط موازين القوى الإقليمية. ومع مرور
الزمن، غدت إسرائيل امتدادا استراتيجيا للولايات المتحدة، حيث حصلت على مليارات
الدولارات من المساعدات العسكرية، وأحدث منظومات الدفاع الصاروخي، وأبواب مفتوحة
للتكنولوجيا المتقدمة. هذا التشابك جعل من أي محاولة دولية للضغط على إسرائيل
تهديدا مباشرا لمكانة واشنطن العالمية، فبات الفيتو وسيلة لحماية نفوذها بقدر ما
هو لحماية حليفها.
ولم يعد
هذا التحالف مقتصرا على البعد الخارجي، بل أصبح جزءا من معادلة السياسة الداخلية
الأمريكية. فاللوبي المؤيد لإسرائيل يمارس تأثيرا واسعا على الكونغرس والإدارة، ما
يجعل أي رئيس أمريكي حريصا على تأكيد التزامه المطلق بأمن إسرائيل. وتدفع
الاعتبارات الانتخابية والسياسية الداخلية إلى المزايدة في إعلان الولاء لها، بحيث
صار من الصعب على أي إدارة أن تغير جذريا هذا الموقف. لذلك يعكس الفيتو السادس في
شأن غزة ليس فقط شبكة مصالح دولية، بل أيضا بنية سياسية داخلية تكرس التبعية
الاستراتيجية لإسرائيل.
ورغم أن
واشنطن تبرر استخدام الفيتو بحجج معلنة، فإن هذه الحجج لا تعدو أن تكون غطاء
خطابيا لرهانات أعمق. فهي تصر على ضرورة إدانة حماس في أي قرار، وتؤكد على حق
إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وتدعي أن وقف إطلاق النار غير المشروط قد يمنح حماس
فرصة لإعادة تنظيم صفوفها، كما تزعم أن المساعدات الإنسانية قد تستغل لأغراض
عسكرية. غير أن متابعة السياسات الأمريكية تكشف أن الهدف الحقيقي هو ضمان استمرار
حرية إسرائيل في العمل العسكري وعدم تقييدها بقرارات دولية ملزمة.
الفيتو هنا يتحول من أداة لحماية الحليف إلى عبء يفضح حدود القوة الأمريكية، ويكشف أن النصر التكتيكي قصير المدى يخفي خسارة استراتيجية بعيدة المدى، سواء لمكانة واشنطن أو لشرعية النظام الدولي نفسه
فالولايات
المتحدة ترى أن أي وقف لإطلاق النار يفرض من الخارج يضعف قدرة إسرائيل على فرض
شروطها، وأي إدانة لممارساتها قد تفتح الباب لمطالبات بالمحاسبة. هذه المبررات
المكررة منذ عقود تحولت إلى ذرائع جاهزة، بينما الحقيقة أن الفيتو أداة لمنع مجلس
الأمن من إعادة صياغة ميزان القوى.
إن
الرهانات الخفية وراء الفيتو أوسع من غزة ذاتها. فالولايات المتحدة تستخدمه لإرسال
رسالة لحلفائها وخصومها بأنها لا تزال قادرة على التحكم بمخرجات النظام الدولي،
وأنها لن تسمح بقرارات تقيد قدرتها أو قدرة حلفائها على المناورة. وهكذا يصبح
الفيتو وسيلة لإعادة إنتاج الهيمنة الأمريكية داخل مجلس الأمن، حتى ولو كان الثمن
عزلتها أمام المجتمع الدولي، وتعميق الشعور العالمي بأنها توظف المؤسسات الدولية
لخدمة مصالحها الخاصة، وهو ما يضعف شرعية هذه المؤسسات ويغذي المطالب بإصلاحها أو
تجاوزها.
وفي
المحصلة، فإن الفيتو السادس قد يمنح إسرائيل حرية أكبر في الميدان ويوفر لها
الغطاء الدبلوماسي، لكنه يترك الولايات المتحدة أمام خسائر استراتيجية طويلة
الأمد. فهو يعمق عزلتها في مجلس الأمن، ويقوض خطابها عن الديمقراطية وحقوق
الإنسان، ويضعف قدرتها على حشد الدعم في قضايا أخرى. كما يعزز نفوذ خصومها مثل
روسيا والصين الذين يقدمون أنفسهم كمدافعين عن العدالة الدولية، ويغذي الدعوات
لإصلاح مجلس الأمن بما يقلص من سلطة الدول الكبرى. إن الفيتو هنا يتحول من أداة
لحماية الحليف إلى عبء يفضح حدود القوة الأمريكية، ويكشف أن النصر التكتيكي قصير
المدى يخفي خسارة استراتيجية بعيدة المدى، سواء لمكانة واشنطن أو لشرعية النظام
الدولي نفسه.