ما جرى يوم الثلاثاء الماضي من قصف إسرائيلي على العاصمة القطرية الدوحة يعد مظهراً من مظاهر الاضطراب الذي لا تكف عنه هذه المنطقة، منذ قيام دولة إسرائيل.
يطرح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مقترحاً لإنهاء الحرب الإسرائيلية على غزة، ترسل إسرائيل إشارات متضاربة حول التفاوض، بين الموافقة والرفض، لغرض التمويه، يحزم مسؤولون في حركة حماس أمتعتهم من تركيا إلى الدوحة، لمناقشة المقترح الذي تسلمته الحركة من الوسيط، والتباحث حوله مع قيادات الحركة المتواجدة في الدوحة التي ـ بدورها ـ تعمل وسيطاً، لإنهاء العدوان الإسرائيلي على غزة.
يزيد الرئيس الأمريكي الضغط على حماس، منذراً «باقتراب الأحداث من ذروتها». يقول ترامب : «لقد قبل الإسرائيليون شروطِي. حان الوقت لحماس لقبولها أيضًا. لقد حذرت حماس من عواقب عدم القبول. هذا تحذيري الأخير، لن يكون هناك تحذير آخر».
لا يعرف أحد ـ بالطبع ـ كيف ومتى قبل الإسرائيليون مقترح ترامب، مع إصرار بنيامين
نتنياهو على الحل الاستئصالي في غزة، بنسف الأبراج وإحاطة المدينة بترسانة عسكرية ضخمة.
في المشهد تبدو فيلا في حي سكني مكتظ، فيلا كان من المفترض انعقاد لقاء قادة حماس فيها، مع سقوط صواريخ إسرائيلية تسويها بالأرض. مشهد أشبه بسرد خيالي عبثي، لا يمكن استيعابه أو فهمه، ذلك أن المستهدفين بالاغتيال كانوا سيناقشون مقترح الرئيس ترامب الذي قيل إن الإسرائيليين قبلوا به، عدا عن أن الضربة كانت على عاصمة الدولة الوسيط التي تسعى جاهدة للمساعدة على التوصل لحل، وهي سابقة سجلتها إسرائيل في استهداف المفاوضين والوسطاء.
البيت الأبيض يقول إن واشنطن أبلغت الدوحة بالهجوم الإسرائيلي قبل حدوثه، وأن واشنطن علمت بالهجوم والصواريخ في الجو، أما الدوحة فنفت أن تكون تلقت أي تحذير مسبق، وقال المتحدث باسم الخارجية القطرية إن «الاتصال الذي ورد من قبل أحد المسؤولين الأمريكيين جاء خلال سماع دوي صوت الانفجارات الناتجة عن الهجوم الإسرائيلي في الدوحة».
ما معنى هذا؟
هل علمت واشنطن بالهجوم وسكتت؟ هل تأكيدها إبلاغ الدوحة يأتي بعد فشل الهجوم، على سبيل تبرئة الساحة، ما دفع الرئيس ترامب للقول إن «الهجوم لن يتكرر»؟
أسئلة يصعب الإجابة عليها بأكثر من تكهنات غير مدعومة بتفاصيل حقيقية حول ما جرى.
وفي المشهد الغائم تؤكد إسرائيل استهداف كبار قادة حماس، فيما الحركة تؤكد نجاة قياداتها، وفشل محاولة الاغتيال، قبل أن تعود إسرائيل لتقول إن هجومها «ربما لم يحقق النتيجة المرجوة» ويخرج نتنياهو، ويقول إن إسرائيل ستوقف الحرب فوراً إذا قبلت حماس مقترح ترامب، وهو الذي أمر بتنفيذ عملية اغتيال قيادة الحركة ووفدها المفاوض، أثناء لقاء مفترض لمناقشة المقترح، في مشهد عبثي لا يمت إلى الدبلوماسية ولا إلى المنطق بصلة، إذ كيف يوافق الإسرائيليون على مقترح استهدفوا بمحاولة اغتيال طرفه الآخر، وهو ما يكرس أجواء من الشك وعدم الثقة في الصفقة، والهدف منها، خصوصاً بعد تصريحات إسرائيلية أوردتها «سي ان ان» تتحدث عن التخطيط لعملية الدوحة قبل شهور، ما يؤكد اتخاذ نتنياهو التفاوض مجرد وسيلة لكسب الوقت.
هذه الجزئية من المشهد تشير لارتباك إسرائيلي واضح، بعد نجاة وفد وقيادات حماس التي أعلن استهدافها، هذه النجاة التي فسرت بأكثر من تفسير، منها شكوك حماس والقطريين حول بيانات وسلوك الجانب الإسرائيلي، ما أدى للتمويه عليه، ومنها أن معلومات عن الهجوم وردت للمعنيين فاحتاطوا، وهو ما يزيد من غموض المشهد.
المشهد الذي يمكن أن يكون صورة مصغرة للصورة الكلية في الشرق الأوسط، وهي صورة فيها الكثير من التناقض والتوحش والعبث والاستهتار والازدواجية، وما لا حصر له من الانفلات والفوضى وغياب مفردات القوانين والأعراف الدبلوماسية والمعاهدات الدولية.
وبعيداً عن الأعراف الدبلوماسية التي انتهكتها إسرائيل بالاعتداء على دولة ذات سيادة، ووسيط في المفاوضات من جهة، واستهداف وفد مفاوض من جهة أخرى، بعيداً عن تلك الأعراف، يطل سؤال آخر عن الكيفيات التي سيكون عليها التفاوض، بعد محاولة اغتيال الوفد المفاوض، على أرض الدولة الوسيط، وأسئلة كثيرة عن تنفيذ محاولة الاغتيال من خلال انتهاك سيادة دولة ذات سيادة، وليس عبر الأساليب الإسرائيلية المعهودة بالاعتماد على العمليات الاستخباراتية القذرة، لتنفيذ العملية، بعد أن أصبحت إسرائيل مصابة بحالة إحباط من صعوبة وتعقيد خياراتها في غزة.
وإذا تركنا التساؤلات جانباً، فإننا يمكن أن نلحظ عدة رسائل وأهداف أرادت إسرائيل إرسالها وتحقيقها بهجومها على الدوحة، هذه الرسائل يمكن إيجازها في ما عبر عنه رئيس الكنيست أمير أوحانا الذي نشر فيديو القصف على الدوحة، مصحوباً بتعليق استفزازي يقول: «هذه رسالة لكل الشرق الأوسط» وهي الرسالة المرسلة على أجنحة الطائرات والصواريخ التي قصفت في إيران ولبنان وسوريا واليمن، ناهيك على القصف الوحشي على غزة.
لا يمكن إغفال الهدف الأكبر لنتنياهو، والمتمثل في إجهاض الحل التفاوضي
وضمن الرسالة الإسرائيلية المقصودة تأتي محاولة ترهيب دول أخرى تستضيف قيادات في
المقاومة الفلسطينية، مع الإشارة إلى أن الضربات الإسرائيلية على سوريا هي رسائل صريحة لتركيا.
ومع تلك الرسائل لا يمكن إغفال الهدف الأكبر لنتنياهو، والمتمثل في إجهاض الحل التفاوضي، تمهيداً لتنفيذ خطته في احتلال غزة وتهجير سكانها، وهو الهدف الذي أصبح يطرح بكل وقاحة، متجاوزاً كل المقررات الدولية في هذا الخصوص.
يمكن ـ إذن ـ إجمال ما ذكر من أهداف ورسائل في عنوان واحد هو «إسرائيل الكبرى» زعيمة «الشرق الأوسط الجديد» إسرائيل التي أوجدت لها مكاناً، حسب رؤية بنيامين نتنياهو في كتابه: «مكان بين الأمم…إسرائيل والعالم» إذ يؤكد أن «الوطن القومي لليهود» يشمل «ضفتي نهر الأردن» على اعتبار أن بقاء إسرائيل ضمن حدود ما قبل 1967 أمر بالغ الاستحالة، حسب آيديولوجيا نتنياهو واليمين الحاكم القائمة على مفهوم «الوطن التوراتي والعاصمة الأبدية».
وهذا يعني كما قال نتنياهو في كتابه سالف الذكر: «إن إسرائيل لا تستطيع العودة الى حدود حزيران 1967، دون أن تعرّض وجودها للخطر، وأنه لا يحق لها التفريط بالسيطرة الاستراتيجية على الجولان، ومناطق الضفة الغربية» ناهيك عن أن فكرة الوطن القومي لليهود تتسع لتشمل ما يمكن تسميته «الوطن الجيوسياسي» وبذا يكون مركز الوطن الإسرائيلي في فلسطين التاريخية كلها، فيما يمتد «الوطن الجيوسياسي» ليشمل الشرق الأوسط كله» وهو ما أشار إليه ـ أخيراً ـ بنيامين نتنياهو الذي أكد أنه «في مهمة تاريخية وروحية، تتعلق بإسرائيل الكبرى» التي يبدو أن السلوك السياسي والعسكري لدولة
الاحتلال يرسم حسب هذه المهمة المنوطة بنتنياهو، والمنبثقة عن رؤيته ورؤية حكومة الحاخامات لمفهوم إسرائيل الكبرى.
لكن هل فعلاً حققت إسرائيل هدفها من وراء عملية الدوحة؟
تشير حالة الارتباك الإسرائيلي الواضحة إلى أن الإسرائيليين لم يربحوا اغتيال قادة حماس، وفي المقابل منيت إسرائيل بخسارة دبلوماسية هائلة تمثلت في استنكار دولي واسع وإدانة واضحة للهجوم، ما يضاعف خسائر دولة الاحتلال التي لم تقف عند حد استدعاء رئيس وزرائها من طرف محكمة الجنايات الدولية، والترافع ضد الجيش الإسرائيلي على خلفية جرائم إبادة جماعية، أمام محكمة العدل الدولية، مع منع مسؤوليها من دخول بعض الدول الأوروبية، ومواطنيها من دخول بعض الأماكن السياحية، دون إغفال الغضب الشعبي العالمي إزاء جرائمها في غزة.
أما رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين فقالت إن الاتحاد الأوروبي يقترح على أعضائه فرض عقوبات على وزراء في حكومة نتنياهو، وتعليق التعاون الثنائي، وإنشاء مجموعة مانحين لفلسطين، وهذه خسائر مادية ومعنوية كبيرة لدولة الاحتلال.
يقول توماس فريدمان إن «إسرائيل الآن في طريقها لأن تصبح «دولة» منبوذة، لدرجة أنّ الإسرائيليين سيفكّرون مليّاً قبل التحدّث بالعبرية عند السفر إلى الخارج» مع إبداء الكاتب اليهودي الأمريكي المعروف خشيته من «أن يدفع اليهود في كل مكان الثمن غاليا إذا لم يقاوموا «اللامبالاة المطلقة» لحكومة اليمين الإسرائيلي المتطرف التي تشن عدواناً وحشياً ضد غزة التي كانت ولا زالت «أكبر سجن مغلق ـ وليس مفتوحاً ـ في العالم» ثم أصبحت أكبر «مقبرة أطفال» حسب التصريحات الأممية.
القدس العربي