الوصف اللائق بالهجوم الذي شنّته إسرائيل على
الدوحة عصر الثلاثاء هو أنه عمل إرهابي غاشم لا يصدر إلا عن حكومة مارقة تستفيد من غطاء غربي شبه مطلق يحميها من المساءلة ويشجعها على الاستمرار في غيّها.
لكن هناك مارقا آخر: البيت الأبيض برئاسة دونالد
ترامب. صحيح أن الهجوم على الدوحة، فكرة وتنفيذا، إسرائيلي، لكن الغطاء الدبلوماسي والعسكري واللوجستي أمريكي. لا يوجد عاقل سيصدّق زعم إسرائيل أنها تصرفت بمفردها وتتحمل المسؤولية كاملة عن ذلك الهجوم الغادر. ولا يوجد عاقل سيصدّق زعم البيت الأبيض أن إسرائيل أبلغته بالهجوم قبيل بدئه بلحظات فقط، وزعم ترامب أنه مستاء.
لولا الثقة الإسرائيلية المطلقة في أن الولايات المتحدة ستزكي تصرفات إسرائيل الهوجاء في المنطقة، يستحيل أن تتجرأ إسرائيل على مهاجمة سوريا ولبنان واليمن والضفة الغربية وتوسيع حرب الإبادة في غزة بهذا الشكل غير المسبوق.
ولولا الضوء الأخضر الأمريكي يستحيل أن تتجرأ إسرائيل على شنّ هجوم على قادة
حماس في الدوحة في انتهاك صارخ للقوانين والأعراف الدولية ولسيادة دولة مستقلة.
ومن دون التواطؤ الأمريكي يستحيل أن تشن إسرائيل، ولن تستطيع، حتى لو أرادت، شنّ كل هذه الحروب وممارسة كل هذا القتل متى شاءت وحيث شاءت وأنّى شاءت.
نحن أمام تكامل أمريكي إسرائيلي لا مثيل له. لكنه تكامل في الشر والغدر والتأسيس لمستقبل حافل بالموت والاضطرابات.
مرة أخرى ترامب بغدر. قبل ثلاثة أشهر ذاقت إيران من كأس الغدر، إذ بينما كانت المقاتلات الحربية الإسرائيلية تُسخّن محركاتها للإقلاع نحو قصف إيران، كان ترامب يضلل الإيرانيين بأكاذيب عن قرب التوصل إلى اتفاق مع طهران ويتفاءل بنجاح مفاوضات مسقط التي كانت ستبدأ بعد ساعات. ثم قصفت إسرائيل إيران وتبعها لاحقا قصف أمريكي لإيران.
عصر الثلاثاء تكرر سيناريو مشابه لما تعرضت له إيران: التقى قادة حماس في الدوحة لمناقشة مقترح أمريكي طرحه ترامب (زعم أنه جاد وأن إسرائيل وافقت عليه) يعيد الرهائن (هذا كل ما يهمّ الأمريكيين والإسرائيليين) ويوقف مؤقتا حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على غزة.
يعرف الأمريكيون والإسرائيليون والوسطاء أن حماس ليست في وضع يسمح لها برفض مقترحات أو إملاء شروط قاسية. ويعرفون أنها، مهما كانت الأفكار المطروحة جائرة لن تمتلك ترف مناقشتها. ومناقشة أيّ مقترح تتطلب اجتماع القادة حضوريا، لأسباب أقلها تفادي التنصت على أجهزة الاتصال. من هنا يحق التساؤل إنْ لم يكن حديث ترامب عن مقترح «جديد جاد» مجرد فخ لقادة حماس للالتقاء في توقيت واحد ومكان واحد ومن ثمة يسهل على إسرائيل استهدافهم ـ بدعم أمريكي.
إيماني مطلق بأن الولايات المتحدة طرف فاعل في الحرب الإسرائيلية على غزة. كانت كذلك مع الإدارة السابقة بقيادة بايدن، وزادت أكثر مع وصول ترامب للحكم بداية هذا العام فتجاوزت حدود ما يستوعبه العقل.
منذ بداية هذا العام لم تزهق إسرائيل روحا واحدة في الشرق الأوسط ولم تسفك قطرة دم واحدة ولم تطلق صاروخا أو مسيّرة من دون مباركة إدارة ترامب.
ولم تضم شبرا واحدا من أراضي الضفة الغربية من دون هذه المباركة الأمريكية. انتهاك اتفاق وقف إطلاق النار في منتصف آذار (مارس) الماضي بتشجيع أمريكي. إزاحة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) من المشهد جرى بتزكية أمريكية. تعويض الوكالة بما يسمى مؤسسة غزة الإنسانية فكرة أمريكية وراؤها جشع ولهث وراء الربح المادي على حساب آلام أطفال غزة ونسائها وشيوخها. اتساع نطاق سرقة أراضي الفلسطينيين في الضفة الغربية تتم بموافقة أمريكية وبرعاية رسمية من سفير الولايات المتحدة في إسرائيل. قصف اليمن لا يمكن أن يتم من دون غطاء أمريكي. التوغل في سوريا وتدمير جيشها من الجو يجري بصمت متواطئ أمريكي.
بعد كل هذا لماذا لا يكون الهجوم على الدوحة بتزكية أمريكية؟ الفعل في حد ذاته أخطر من أن تجرؤ عليه إسرائيل. المقاتلات الإسرائيلية لا تتحرك من دون أذون فنية أمريكية ولا تستطيع قطع مسافات طويلة من دون دعم أمريكي.
أخشى أن القادم أسوأ. وأخشى أكثر عندما أتذكر أن هذا الرجل بالكاد أمضى تسعة أشهر في الحكم ولا يزال أمامه مثلها أربعة أضعاف
أما محاولة الالتفاف على الحرج باختلاق قصة أن القيادة العسكرية الإسرائيلية أخبرت نظيرتها الأمريكية بالهجوم، والأخيرة أبلغت به البيت الأبيض، وهو بدوره أبلغ المبعوث ستيف ويتكوف، ثم هذا الأخير يُبلغ قطر، فدليل ارتباك فاقمه ادعاء المتحدثة باسم البيت الأبيض مساء الثلاثاء أن ترامب «لا يؤمن بأن استهداف الدوحة سيخدم أهداف السلام الأمريكية الإسرائيلية» لكنه في الوقت نفسه «يؤمن بأن التخلص من قادة حماس عمل يستحق السعي له».
هذا التفكير الأعوج يشجع على الاستنتاج التالي: لو نجحت محاولة اغتيال قادة حماس لسارع البيت الأبيض إلى مباركة العملية وربما تبنّيها، وكان ترامب سيقول كما فعل في حالات سابقة: كنت أعلم، أنا من اقترح عليهم، أنا من شجعهم، أنا أنا.. إلخ. لكن عندما فشلت العملية، توارى ترامب عن الأنظار في ذلك اليوم واختار البيت الأبيض الابتعاد عنها قليلا واتخاذ موقف وسط يُبرئه أمام قطر والعالم ولا يحرجه مع إسرائيل.
امتنعتُ طيلة هذا النص عن استعمال عبارة الإدارة الأمريكية، لأن مشكلة الولايات المتحدة أنها لا تمتلك الآن إدارة بالمعنى المتعارف عليه. هناك رجل واحد يقود البلاد برعونة وبحسابات شخصية ومصالح فردية تشبه حسابات رئيس الوزراء الإسرائيلي وتربطه به ثقة شخصية لا علاقة لها بالبلدين. وهي حسابات ستكلف الولايات المتحدة كثيرا وتمرّغ سمعتها وسمعة ترامب في التراب.. عاجلا أو آجلا.
إسرائيل الحالية خطر كبير على سلام واستقرار المنطقة العربية. لكن لنتفق على أن فريق ترامب لا يقل خطورة والخوف الأكبر منه وليس من إسرائيل.
أخشى أن القادم أسوأ. وأخشى أكثر عندما أتذكر أن هذا الرجل بالكاد أمضى تسعة أشهر في الحكم ولا يزال أمامه مثلها أربعة أضعاف، فماذا سيفعل بنا وبالعالم؟ ومن يحمينا منه؟
القدس العربي