من عادات
ترامب ولُزوميّاته أن يشنّع على الصحافيين والإعلاميين. فلا يكاد يلقي خطابا أو يدلي بتصريح إلا ويبلغ موضعا يَلزم فيه أن يحمل، بمناسبة وبغير مناسبة، على «الإعلام الزائف» وعلى «الأخبار الكاذبة»، قاصدا بذلك شبكات تلفزية مثل السي. ان. ان. والسي. بي. اس.
وجرائد عريقة مثل النيويورك تايمز والواشنطن بوست، وحتى الوول ستريت جورنال التي يملكها أحد كبار أنصاره، اليميني الرجعي روبرت مردوخ. ومن أطرف ما جاء في هذا الباب أخيرا أن صحافية سألته عن علاقاته برئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أون فأجابها: «علاقاتي به ودية، ولا ينبغي لي أن أعبر عن إعجابي به وإلا فإن وسائل الإعلام الزائف سوف تغتالني» (أي تهوّل الأمر وتقيم الدنيا ولا تقعدها).
ولكن رغم بغض ترامب للإعلام الذي لا يصفق له ولا يمجده ويتملّقه صباحَ مساء، مثلما تفعل شبكة فوكس نيوز مثلا، فإن العجيب أنه أول حاكم غربي في التاريخ المعاصر ينافس الصحافيين والإعلاميين على إحدى أهم مهامهم: إنها مهمة التعليق على الأحداث!
ولكن الفارق أن التعليق جزء لا يتجزأ من عمل الإعلاميين لأن من واجبهم أن يتابعوا الحياة العامة، الداخلية والدولية، بالرصد والفهم والنقد، علما أنه لا صلاحيات دستورية لديهم ولا سلطة ولا جيش ولا سلاح. أما ترامب، الذي يقود أعتى قوة عسكرية واقتصادية في تاريخ البشرية، فإنه قرر، مختارا، أن يتخلى عن بعض مسؤولياته الدولية الكبرى ويكتفي بتقديم التعليقات والآراء والملاحظات كأنه مجرد حاكم صوري بلا سلطة ولا حول ولا قوة.
ويظهر هذا المنحى «التعليقيّ»، المقترن بدوام العجز عن الفعل، في مسألتين على الأقل. الأولى هي الحرب الروسية الأوكرانية التي أثبت للعالم قدرته، التي طالما تباهى بها، على أن ينهيها في غضون 24 ساعة!
أما المسألة الثانية، فهي علاقته بإسرائيل وعدوانها على
غزة. إنه الحاكم الوحيد في العالم القادر، بمهاتفة واحدة، على وقف حرب الإبادة. ولكنه لا يفعل. بل يكتفي بالتعليق السطحي قبل الانتقال إلى موضوع آخر.
والدليل على أن عجز ترامب عن إنهاء أشنع مجزرة إبادة في التاريخ المعاصر إنما هو عجز اختياري، مصدره التقاعس واللامبالاة أو بلادة الحس الإنساني، أنه أدلى قبل أيام بتصريحات تثبت أنه سرعان ما يصير قادرا على الفهم حالما يتعلق الأمر بمصلحته.
قالت له صحافية «ديلي كولر» إن أحدث استطلاع للرأي أظهر أن 53 بالمائة من الأمريكيين البالغين و50 بالمائة من شباب الحزب الجمهوري صاروا يحملون صورة سلبية عن إسرائيل (بينما لم تكن النسبة قبل ثلاثة أعوام إلا 40 و35 بالمائة) وإن تيارا متصاعدا داخل حركة «ماغا» المناصرة لك وكثيرا من شباب الحزب الجمهوري غير مرتاحين لدعمك لإسرائيل، فهل أنت واع بوجودهم؟ وهل ينتابك القلق بهذا الشأن؟ فأجاب: نعم أنا واع بذلك (..) إسرائيل تؤيدني. ولا أحد بذل من الدعم لإسرائيل أكثر مما بذلت، بما في ذلك الهجمات على إيران (..)
وبعد انتقاده لسي. ان. ان. لأنها شككت في صحة زعمه بأن أمريكا دمرت المفاعل النووي الإيراني تدميرا كليا، قال: «قبل 20 سنة كان لدى إسرائيل أقوى لوبي في الكونغرس. لقد مضى زمن كان من المستحيل فيه على أي سياسي أن يقول عن إسرائيل سوءا (..) لقد كانت إسرائيل تسيطر على الكونغرس سيطرة كلية.
أما الآن فلا سيطرة لهم. هذا مفاجئ لي بعض الشيء (..) إن على الإسرائيليين أن ينهوا تلك الحرب. إنها ضارة بهم (..) ربما يكونون بصدد كسب الحرب، ولكنهم خسروا عالم العلاقات العامة. لقد كان اللوبي الإسرائيلي قبل 15 سنة أقوى لوبي على الإطلاق. أما الآن فقد ضعف وتضرر في الكونغرس على وجه الخصوص».
أمر الرجل محيّر: ربما يكون أول رئيس أمريكي يتحدث عن سطوة اللوبي الإسرائيلي بكل هذه الصراحة. ولكن المسافة الرَّصْدية (حتى لا نقول النقدية) التي أتاحت له أن يلاحظ أن اللوبي الإسرائيلي أخذ يضعف وأن إسرائيل خسرت الرأي العام العالمي لم تمنحه الإدراك بأن الأوان قد آن لتعريف «دولة اللوبي» قدرها ووقفها عند حدها (أو إنقاذها من نفسها) ولم تبعث فيه همة رئاسية لأن يفعل شيئا يثبت به صحة مزاعمه حول كونه رجلَ سلام حلّالا للنزاعات مَنّاعا للحروب. رئيس ثرثار لا تحرك فيه الأهوال والشرور وصور الرضع القتلى والجوعى ساكنا سوى اللسان يطلقه بمزيد من اللغو والدجل.
القدس العربي