مقالات مختارة

من فرط "الذكاء": انطفأ النور ونضب الماء

مالك التريكي
الأناضول
الأناضول
لا يحتاج المرء أن يكون مختصا في علوم البيئة، بل يكفي أن يلتزم الواقعية الواقية من التفاؤل والتشاؤم التي انتهجها الصحافي ديفيد والس-ولز في كتابه «الكوكب غير الصالح للسكن» حتى يستبين الحقيقة التي ما فتئت تزداد وضوحا مع انعقاد كل مؤتمر سنوي للتغير المناخي: وهي أن البشرية لن تفلح بأية حال في تحقيق ما تصبو إليه الأمم المتحدة من خفض منفوثات الوقود الأحفوري للإبقاء على الاحتباس الحراري العالمي (بحلول عام 2100) عند مستوى لا يتجاوز 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل بدء عصر الثورة الصناعية. وقد ظلت هذه الحقيقة، منذ منتصف التسعينيات إلى اليوم، بيّنة لكل من يريد أن يرى. ومن أسبابها البديهية أن كثيرا من الحكومات تحضر هذه المؤتمرات من باب رفع العتب.

أما السبب الأعمق فهو أن مصالح كل من الدول السائرة في طريق النمو والدول المنتجة للنفط والغاز والفحم تختلف عن مصالح الدول الأوروبية، بل هي مناقضة لها في معظم الحالات. والنتيجة أنه رغم أن مصير الكوكب ينذر بهلاك جميع البشر بدون تفريق بين أمة وأخرى (إلا ربما في تفاوت وتائر وقوع الطامّة) فإنه ليس هناك حكومة عالمية قادرة على حفظ الصالح الإنساني العام، بل إن مصير البشرية بقي وسيبقى رهن أنانية حكومات ضيقة الأفق «لا ترى أبعد من أنفها» الإثني أو القومي (أو الحضاري في أفضل الحالات، مثلما هو شأن أوروبا الغربية مثلا).

كان كل هذا قبل أن تدخل البشرية، منذ عام 2022، في زمن سطوة الذكاء الاصطناعي. أما الآن فقد صارت الصورة أوضح وأجْلَى بأضعاف. ذلك أن البشرية قد أضافت لتناقضاتها الكثيرة تناقضا جديدا لعله الأكبر والأخطر: التناقض بين نيّات حفظ البيئة وبين واقع تكنولوجيا مستقبلية لا يشبع نهمها الاستهلاكي للطاقة المتلفة للبيئة. فقد صار الذكاء الاصطناعي هو أحد أكبر أسباب تعاظم الطلب على الطاقة، وعلى الكهرباء تحديدا، في الأعوام والشهور الأخيرة لأنه يعتمد على مراكز البيانات الضخمة التي تستهلك كميات هائلة من الطاقة الكهربائية. وقد كان العائق الأول لتطوير تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي حتى عهد قريب هو توفر الدّارات المتكاملة الفائقة الدقة، أما الآن فالعائق الأول هو توفر إمدادات الكهرباء.

فنموذج جيبيتي-4 يمكن أن يستخدم أكثر من 364 ألف ساعة ميغاوات من الكهرباء في العام، أي أكثر من استهلاك الطاقة السنوي لـ35 ألف عائلة أمريكية.

ولهذا فإن الذي سيحدد من سيكون المنتصر في سباق الهيمنة على الذكاء الاصطناعي بين الصين وأمريكا هو إمدادات الكهرباء. ذلك أن كل قوة عظمى إنما تنجح في الصعود بفضل حصولها على مصدر طاقة بخسة الثمن. حيث قامت الثورة الصناعية في بريطانيا بفضل وفرة الفحم الحجري الرخيص، وهيمنت أمريكا على التكنولوجيا الصناعية والعسكرية في القرن العشرين بفضل وفرة الطاقة النفطية والمائية الكهربائية الرخيصة. أما في المستقبل فيُتوقع أن مصادر الطاقة المتجددة، مثل ألواح الطاقة الشمية وعَنَفات الرياح، قد تصير هي محرك تطوير الذكاء الاصطناعي، بما يضمن للصين القفز إلى قمة هرم التكنولوجيا العالمي.

ولكن بما أن مراكز البيانات لا تجد حاليا ما يكفي من الكهرباء، فإن معظم الطاقة التي تغذيها يأتي من الغاز الطبيعي، ما يؤدي إلى تفاقم مشكلة التغير المناخي. فستشهد ولاية لويزيانا، مثلا، بناء ثلاث محطات جديدة للغاز تلبية لحاجيات مركز ضخم للبيانات.

وقد صارت الوكالات العقارية تسعى لشراء الأراضي القريبة من موارد الغاز. ويتوقع أن يبلغ بناء مراكز البيانات نسبة 3 بالمائة من الناتج الأمريكي الخام في مقبل الأعوام، علما أن مد سكك الحديد في القرن 19 قد بلغ نسبة 6 بالمائة.

وقد بنت شركات التكنولوجيا الكبرى مئات مراكز البيانات في أمريكا إلا أن أكثر من 700 قد بنيت في الخارج، إضافة إلى 575 مركزا ستبنى قريبا. وبما أن هذه المراكز تحتاج كميات هائلة من الطاقة لتشغيل الكومبيوترات ومن المياه لتبريدها، فإنها صارت تستهلك خُمُس الطاقة الكهربائية في إيرلندا وتكاد تصيب موارد المياه في الشيلي بالنضوب.

وبسبب هذه المراكز صارت فترات انقطاع الكهرباء تتزايد تواترا وطولا في جنوب إفريقيا وماليزيا وسنغافورة وإسبانيا وهولندا والهند والبرازيل. أما في المكسيك، فإن انقطاعات الكهرباء صارت شبه دائمة وصارت انقطاعات إمدادات المياه تستغرق أسابيع متتالية، ما أدى إلى إغلاق المدارس وأجبر الجراحين على إجراء العمليات في ضوء البطاريات.

القدس العربي
التعليقات (0)