مقالات مختارة

لا شكر لكم على اعترافكم المتأخر والمشروط!

توفيق رباحي
الأناضول
الأناضول
اعتراف دول غربية عديدة، على رأسها فرنسا وبريطانيا وكندا وأستراليا، بالدولة الفلسطينية خطوة تاريخية كبيرة. إلى سنة مضت كان من الصعب تخيّل أن تُقدم إحدى هذه الدول على مثل هذا التصرف السياسي، أما وقد تصرفت كمجموعة في ما يُشبه التحالف، فذلك يزيد من قيمة الفعل، خصوصا أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية اقتصر لحد الآن على دول هامشية مسالمة لا تأثير لها في مشهد العلاقات الدولية.

لكن هناك مواطن خلل كثيرة في موضوع الاعتراف هذا، أولها توقيته الغلط. فالأولوية اليوم إجبار إسرائيل على وقف حرب الإبادة التي ترتكبها في قطاع غزة والضفة الغربية، ثم محاسبة مَن خطط لها ونفَّذ أمام المحاكم الدولية. هذه أولوية الأولويات عند كل ذي عقل سويّ.

هناك أيضا الجانب الأخلاقي في الموضوع من حيث ارتباطه بما تفعل إسرائيل، وهذا مرتبط كذلك بعامل التوقيت: كان يمكن أن يكون اعتراف الغرب بالدولة الفلسطينية منفصلا عن حرب غزة وضمِّ الضفة الغربية. ومن ثمة يوضع في سياق تصحيح جريمة تاريخية ارتُكبت بحق فلسطين أرضا ومجتمعا. وهو تصحيح مطلوب وضروري لجبر الضرر لأن إسرائيل مجرد مشروع استعماري غربي خِيط بإتقان في صالونات صناعة القرار الغربي. واستمرت رعاية الغرب لإسرائيل بعد إنجابها، فلم تتغوّل (إسرائيل) على الفلسطينيين وباقي جيرانها، في الماضي والحاضر، إلا لأن هذا الغرب أطلق يدها لممارسة إرهاب الدولة، وأغمض عينيه وصمَّ أذانه لكي لا يرى ولا يسمع آثار ما تفعل باسمه وبتشجيع منه.
لكننا لسنا أمام نية صادقة وقناعة عميقة لديهم بأن فلسطين تستحق أن تكون دولة. ولسنا أمام تصحيح جريمة تاريخية، أو اعتذار أو صحوة ضمير. مسألة الاعتراف عرجاء منذ البداية وأقدم عليها أصحابها على مضض بعد أن طفح الكيل ولم يعد في إمكانهم لجم وكيلهم المدلل أو التستر على جرائمه.

نحن إذاً أمام محاولة إراحة ضمير لا أكثر. منذ البداية ربط أصحاب مبادرة الاعتراف تحركهم بممارسات إسرائيل في قطاع غزة والضفة الغربية، وتمسكوا بالتذكير باستمرار بأن الاعتراف بالدولة الفلسطينية لا يُغيّر على أرض الواقع شيئا، وبأن مصيره مرتبط بما تفعل إسرائيل وبمدى خضوع السلطة الفلسطينية للإملاءات المطروحة على الطاولة.

الفلسطينيون يحتاجون إلى دعم سياسي ومادي ومرافقة من أجل لملمة جراحهم وترميم أنفسهم ومجتمعهم وإصلاح ذات بينهم
بلغة أكثر وضوحا: هو اعتراف شكلي يمكن مراجعته إذا ما انتفت الأسباب التي دفعتهم إليه، أي الممارسات العدوانية الإسرائيلية. فإذا ما وضعت إسرائيل حداً للحرب على غزة، وتوقفت عن ضمّ أراضي الضفة وتراجعت عن بعض (وليس كل) مشاريع الاستيطان هناك، سيصبح ممكنا أن تعيد فرنسا وبريطانيا وكندا وغيرها النظر في مقاربتها لموضوع الدولة الفلسطينية.

كان من السهل أن يلاحظ المرء في كل حديث بريطاني أو فرنسي رسمي عن الاعتراف بالدولة الفلسطينية أنه يُرفق بشروط قاسية للفلسطينيين أقرب إلى الابتزاز، يعرف من طرَحَها والمطروحة عليه أنها صعبة وربما مستحيلة التنفيذ على الأرض لأسباب سياسية وموضوعية. والشروط في الوقت ذاته رسائل تطمين واعتذار لإسرائيل مضمونها «اطمئنوا، لن نمنحهم شيكا على بياض» و«لا بأس أن تكون دولتهم حبرا على ورق لا غير».
ما لم تتخلَ الحكومات الغربية عن لغة الضغط والمساومة والابتزاز التي تتعاطى بها مع موضوع الدولة الفلسطينية، سيبقى الأمر في مربع النقاش السياسي النظري الذي يريح فرنسا وكندا وبريطانيا، ويزعج إسرائيل والولايات المتحدة قليلا ولكنه لا يُقدم للفلسطينيين شيئا.

وهناك ما لا يقل أهمية عن الشكل: الفعل: ما لم يُترجم الاعتراف بالدولة الفلسطينية إلى قرارات فاعلة تتوقف بدايةً عن تدليل إسرائيل والبحث لها عن أعذار، فهو بلا طائل. وما لم يمتلك المجتمع الدولي والأمم المتحدة والحكومات الغربية شجاعة محاسبة إسرائيل ومقاطعتها سياسيا ودبلوماسيا واقتصاديا وثقافيا وأكاديميا، لا جدوى من الاستمرار في الحديث عن الدولة الفلسطينية. وما لم يفلح هذا العالم في إجبار إسرائيل على الخضوع للقانون الدولي وتحمّل مسؤولية جرائمها، فالاعتراف سيبقى مجرد لغو بلا طائل.

العالم في حاجة إلى الإقرار بأن إسرائيل أصبحت خطرا على جيرانها، وليس العكس كما ادّعى وصدّق منذ 1948.

إلى جانب هذا العمل الموجه نحو إسرائيل، هناك عمل آخر لا يقل أهمية مُنتظر من المجتمع الدولي في اتجاه الفلسطينيين: حق هؤلاء على العالم أن يلوي ذراع إسرائيل ويجبرها على إنهاء حرب الإبادة على غزة فورا ومن دون شروط. العالم مُطالب بإجبارها على التوقف عن ضمِّ أراضي الضفة وإطلاق مشاريع الاستيطان المتوحش التي لا هدف لها إلا القضاء على أيّ فرصة أو مساحة يُحتمل أن تقوم عليها هذه الدولة المأمولة.

بالملموس، في الساعات التي أعقبت اعتراف فرنسا وبريطانيا وكندا بفلسطين يوم الإثنين، دعا رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزراؤه العنصريون إلى ضمِّ الضفة الغربية، وغالبا سيدخلون عهدا جديدا من التنكيل بأهلها وبغزة، فهل استعدت باريس ولندن وأوتاوا لهذا التطور؟ هل تمتلك نية وشجاعة التصدي لنتنياهو وعصاباته؟ وإذا امتلكت هل ستستطيع أن تمنعهم من تنفيذ تهديداتهم؟ إذا لم تستطع، وهو الوارد، فالاعتراف بفلسطين يصبح نقمة ومصيبة أخرى يتوجب على هذه الدول إصلاحها وتحمّل مسؤوليتها.

أما الفلسطينيون فيحتاجون إلى دعم سياسي ومادي ومرافقة من أجل لملمة جراحهم وترميم أنفسهم ومجتمعهم وإصلاح ذات بينهم. وقبل ذلك يحتاجون إلى حماية. ولكن لا يبدو أن الصدق والنوايا الطيبة في هذا المجال متوفرة، فلا إسرائيل ستقبل رؤية الفلسطينيين متحدين ومتصالحين، ولا الغرب لديه الوقت والطاقة للخوض في هذا الموضوع المعقّد الذي يضاف إلى قائمة انتكاسات منطقة الشرق الأوسط.
التعليقات (0)

خبر عاجل