لو يُجري أحد استطلاع رأي بين شعوب العالم ستكون النتيجة واحدة: الإعلام الاجتماعي دمّر مجتمعاتنا وخرب بيوتنا.
ستسمع في كل مجتمع شكاوى وبكائيات وكأنه الوحيد الذي يعاني تبعات الإعلام الاجتماعي ويخشى على مستقبل أبنائه من هذا «الغول». لكن لن تسمع أن «الغول» يتغذى من الناس ذاتهم الذين لا يتوقفون عن الشكوى والتعبير عن الخوف. مَن يُغذي الضحالة ويمنح بعض أسوأ البشر شهرة ومجدا: المجتمع عبر آلاف، وأحيانا ملايين، المتابعين. من يشجع الرذيلة؟ المجتمع أيضا. مَن يشجع استهلاك ثقافة عذاب القبر و«إذا لم ترسل هذه الرسالة إلى عشرة أشخاص خلال عشر ساعات ستموت وتجد جهنم في انتظارك»؟ المجتمع ذاته. مَن يساهم في تعميم الجهل وتهميش العلم والمعرفة؟ المجتمع كذلك.
المجتمعات هي المذنبة وهي الضحية. تعيش حالة عميقة من النفاق: تخاف من «الغول» ولكنها لا تبذل أيّ جهد للتصدي له رغم أنها تعيش دماره في كل يوم ولحظة. وحتى عندما تضع بعض الحكومات (في الغرب بالخصوص) قوانين صارمة لحماية الفئات الهشّة في المجتمع، كالأطفال، يتذمر الناس ويسعون للالتفاف عليها بأي طريقة للاستمرار في استهلاك ما يتقيأه لهم «الغول» على مدار الساعات والدقائق.
رغم أن لهذا «الغول» وجهه المضيء المفيد، إلا أن الناس لا يتوقفون عندها لأنهم، كما في حال الإعلام التقليدي، لا يهمهم خبر الكلب الذي يعض رجلا، لكن يجذبهم خبر الرجل الذي عضّ كلبا فأرداه قتيلا.
مجتمعاتنا جزء من العالم القرية وتعيش صدمة «الغول» بوجهيها، بكامل قوتها. إلا أنها تعطيك الانطباع بأنها هشّة هشاشة مخيفة وبأنها لا تمتلك الحد الأدنى من الدروع وأدوات الحماية، على الرغم من أنها لا تختلف عن المجتمعات الغربية التي نعتقد أنها مُحصّنة ومثقفة وواعية. لقد قضى «الغول» على كل المفاهيم والمسلمات، وساوى بين الناس بأن مرّغهم في ترابه. لكن هناك بعض الفروق: في عدد من الدول الغربية تحاول الحكومات أن تفعل ما تستطيع لتخفيف الأذى، بينما لا تعي حكوماتنا أصلا أن عليها أن تفعل شيئا لحماية الفئات الهشّة التي يفترسها «الغول».
عاشت
الجزائر خلال الأيام الماضية صدمات «الغول» بوجهيها وبكل قوتها: صدمة «مؤثر» جاء من المشرق العربي فتمكن من الاختلاط بـ«مؤثرات» محليات فتحت اثنتان منهن له أبواب بيتيهما وغرف نومهما بشكل طعن في «فحولة «ذكور» المدينة ونسف كل «عمل» شيوخ الدين والدعاة فيها. وصدمة شاب عُرف باسم «هشام الوهراني» متهم بارتكاب كل أنواع الجرائم وتصويرها والتباهي بها أمام أعين القوى الأمنية. ذاع صيت هذا المجرم حتى أصبح حديث العام والخاص، إلى أن تمكن مواطنون في بلدة شبه نائية في غرب البلاد من إلقاء القبض عليه وتسليمه للعدالة. كل ذلك بفضل «الغول» وقوة انتشاره.
في الحالة الأولى استاء المجتمع وقامت الدنيا على النساء «المؤثرات» وما فعلن، وانتشرت مطالب بمحاكمتهن ومحاسبتهن. كل ذلك وسط لعنات مستمرة لـ«الغول» وأين أوصل المجتمع. وفي الحالة الثانية سُمعت إشادات بـدور»الغول» وقوة تأثيره من أطياف مختلفة من الناس، على الرغم من أن اضطرار الناس إلى التدخل لاعتقال مجرم خطير يدين أجهزة الدولة أولاً، علاوة على أنه فعل خطير في حد ذاته يمنعه القانون ويحاسب عليه من باب أن الدولة (في كل مكان وزمان) وحدها مسؤولة عن إنفاذ القانون، ولا أحد يحق له أخذ القانون بيديه كي لا يتحوّل المجتمع إلى غابة.
في خريف 2018 وظّف شاب جزائري «الغول» وتمكّن من جمع آلاف الأشخاص في ساحة «رياض الفتح» بأعالي العاصمة لإحياء عيد ميلاده الحادي والعشرين. تسببت الواقعة في شلَّ شوارع المناطق القريبة واستنفرت القوى الأمنية، ومعها الذين ساءهم الفعل وتأثير «الغول» وقدرته على جذب آلاف الناس كالقطعان إلى عيد ميلاد شخص محدود المستوى لا يعرفونه ولا يعرفهم.
استاء كثير من الناس لكن لم تصل الأمور إلى دعوات حادة للمحاكمة والمساءلة. وقد يعود هذا إلى أن الواقعة كانت «بيناتنا»، أو «احنا في احنا» لا غرباء في الموضوع، وأيضا لأن «أبطالها» الرئيسيين لم يكونوا نساء فكان «العرض والشرف» في مأمن! ففي حالة الشاب الجزائري وعيد ميلاده لم يخش ذكور المدينة على «خبز الدار»، أما في حالة المؤثرين الذين قدموا من خارج البلاد فثار الذكور لأن عبارة «خبز الدار ياكله البراني» النائمة في أعماق كل ذكور المجتمع، قفزت إلى السطح. وتلكم عبارة يحلو للشباب استعمالها عند الضرورة حتى بين أبناء المنطقة الواحدة من الجزائر، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالنساء والزواج وما يُعتبر شرف العائلة ثم الجوار.
تعبّر الواقعتان عن ذهنية اجتماعية مركّبة أتوقع أنها منتشرة في المجتمعات العربية والمسلمة التي تشبه المجتمع الجزائري. ذهنية تفتقر للصدق والشجاعة الذاتية، تتقبل الشيء عندما لا يعنيها بشكل مباشر ولا يشكل خطرا على كبريائها ومحاذيرها مما تراه شرفا وعرضا وكرامة ومكانة اجتماعية.
لكنها ترفض الشيء ذاته إذا اقترب من مربع الخطر لديها مثل الزوجة الشابة والبنت العزباء في العائلة.
في حالة «الغول» وما يفعل بالناس، تحتاج المجتمعات إلى الاعتراف بأنها مسؤولة عنه، وبأنها طالما لا تستطيع التغلب عليه، تستطيع الالتحاق به، كما يقول المثل الإنكليزي. كما عليها أن تعترف بأن «الغول» شحنة واحدة غير قابلة للتجزئة فلا تنتقي منها ما يعجبك وتترك ما لا يعجبك.
أما إذا احترت بين الحلول، فافعل مثلي: حصّن نفسك وعشْ حياتك خالية من «الغول».. لا منصات ولا حسابات ولا صداع رأس.
القدس العربي