أراد الرئيس الأمريكي دونالد
ترامب حصد كل الجوائز التي من شأنها تمجيده وفتح أبواب التاريخ في وجهه، لكنه لم ينل ما أراد.
ادّعى أنه سيضع حداً لكل الحروب والصراعات، لكنه فشل في ذلك.
زعم أنه رجُل سلام يكره الحروب، لكن ها هو يدق طبول الحرب على فنزويلا بأسلوب يُذكّر بحروب الولايات المتحدة وتدخلها لتغيير الأنظمة في دول أمريكا اللاتينية خلال النصف الثاني من القرن الماضي.
البداية من عندنا، الشرق الأوسط. لا يتوقف ترامب عن الادّعاء بأنه وضع حداً للحرب الإسرائيلية على غزة، لكن الحكومة الإسرائيلية، بدعم من المتطرفين في السياسة والجيش، لا تتوقف عن تكذيبه وإحراجه من خلال الغارات التي تشنها على القطاع يومياً ويسقط فيها عشرات الفلسطينيين، ومن خلال سياسة هدم البيوت وما تبقّى من منشآت، والإصرار على غلق المعابر.
ما يجري في غزة حرب حقيقية لكن بوتيرة إسرائيلية، تتيح لإسرائيل التملص من تبعاتها وإحراجاتها، مثلما اضطرت إلى تحمّل ذلك الكمّ الهائل من التنديد والاحتجاج الدوليَين خلال عامين من الحرب.
حاليا تبدو خطة ترامب للسلام في غزة عالقة بين مرحلتين، أولى لم تُنفَّذ كاملة وثانية لم تبدأ بعد. هناك من يجزم بأن الخطة في غرفة الإنعاش، وليس في الأفق ما يدعو للتفاؤل بمستقبلها إلا إذا حدثت معجزة.
السيناريو ذاته يتكرر في إفريقيا: في بداية هذا الشهر استضاف ترامب رئيسي رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية في واشنطن. كعادته، أشاد ترامب بنفسه ثم بالزعيمين لإطلاقهما «عامًا جديدًا من التناغم والتعاون». لكن على الأرض، استمرت العداوات والقتال الشرس. بعد أيام من قمة واشنطن، استولت حركة «إم23»، التي تدعمها رواندا، على مدينة أوفيرا الكونغولية، وهي مدينة كبرى، ما أجبر نحو 200 ألف شخص على الفرار.
غير بعيد عن الكونغو ورواندا، السودان: أبلغ ترامب العالم بصخبٍ كبير بأن لديه من الملفات والقضايا أكثر مما يمكّنه من التدخل لإنهاء الحرب في السودان. ثم أوحى للناس بأنه استحى واضطر للاستجابة لرجاء ولي العهد السعودي، فقرّر أن يتدخل لإنهاء صراع السودان. مرَّ قرابة ستة أسابيع الآن اختفى فيها مسعد بولس، موفد ترامب إلى إفريقيا، ومعه حديث ترامب عن السودان، ويستمر القتال أسوأ مما كان.
مشهد مشابه تماماً في آسيا: في الأسبوع الأول من هذا الشهر اندلعت معارك عنيفة، جديدة، على الحدود بين تايلاند وكمبوديا. نسف القتال المتجدد بين الجارين اللدودين اتفاق سلام تباهى به ترامب أمام العالم في شهر تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. ما حدث وفق وسائل الإعلام الدولية، أن كمبوديا أطلقت صواريخ وطائرات مسيّرة مسلحة على تايلاند، وردّت الأخيرة بشن غارات جوية على أهداف عسكرية كمبودية. الحصيلة مصرع 11 جندياً تايلاندياً على الأقل و11 مدنياً كمبودياً، وتهجير أكثر من نصف مليون شخص من الجانبين.
أما في أوروبا، وبعد شهور من معايرة إدارة جو بايدن والادعاء أنه بعد وصوله للرئاسة سيُنهي حرب روسيا على أوكرانيا بمكالمة هاتفية واحدة، اصطدم ترامب بالواقع المُر: عناد فلاديمير بوتين وتماطل القادة الأوروبيين ومعهم الأوكراني فولوديمير زيلنسكي. مرّت سنة من وصول ترامب إلى البيت الأبيض وأزمة أوكرانيا تزداد تعقيداً.
هذه كلها انتكاسات حقيقية ومخجلة يجب أن تُدرّس في كليات السياسة والدبلوماسية. عنوانها الأبرز: فاقد الشيء لا يعطيه. ترامب ليس رجُل سلام، وليس صادقاً في مساعيه نحو السلام. الوساطات وصنع السلام مهمة مُضنية تحتاج إلى جهد شاق وصبر طويل وتفانٍ لا يتوقف. هي أبعد ما تكون عن التغريدات والعناوين البرّاقة. لكن ترامب يأخذ الأمر على أنه مجد شخصي يدخل به التاريخ نكاية في من شككوا فيه أو تمنوا له الفشل. وربما يجد ترامب في ما يعتبره جهداً لحل النزاعات الدولية تسلية وهروباً من القضايا الداخلية.. التضخم، البطالة، غلاء معيشة الأمريكيين وحروب ما تحت الحزام مع الديمقراطيين التي تستنزف موارد الولايات المتحدة وطاقاتها وتسيء لمكانتها.
ما ساهم في انتكاسة أحلام ترامب أيضاً سطحيته وجهلُه بجذور الصراعات واعتقاده أن حلها لا يختلف عن صفقة عقارية مع مقاول يراه بليدا.
كل النزاعات التي يحاول ترامب حلها لها جذور ملغومة تمتد لعقود. في جميع هذه النزاعات، العداوات عميقة وتنتقل عبر الأجيال
كل النزاعات التي يحاول ترامب حلها لها جذور ملغومة تمتد لعقود. في جميع هذه النزاعات، العداوات عميقة وتنتقل عبر الأجيال. من الجنون أن يُصدّق رجُل أنه يستطيع في جلسة مصافحات وتوزيع طُرف وابتسامات حل صراع عمره عشرات وربما مئات السنين. وهو حال صراعات غزة (سرقة فلسطين بتواطؤ غربي)؛ رواندا (تبعات الحرب الأهلية في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي)؛ كمبوديا وتايلاند (الحدود الملغومة التي رسمتها فرنسا أثناء احتلالها كمبوديا بين 1863 و1953)؛ أوكرانيا (غياب الثقة وكثرة الاتهامات بين موسكو وكييف منذ 1991 وصولاً إلى التنصل من اتفاقيتي مينسك، ثم الغزو الروسي في شتاء 2022).
ما يُعطي صورة أقرب إلى العبثية عن «مساعي» ترامب لـ «إحلال السلام»، أنه اتصل برئيسي وزراء تايلاند وكمبوديا بعد تجدد القتال بداية هذا الشهر، وأعلن على منصته «تروث سوشل» أن الجانبين اتفقا مرة أخرى على وقف إطلاق النار. لكن قادة البلدين نفيا أن يكون هناك وقف جديد لإطلاق نار ، واستمر القتال.
قبل ذلك، وفي موقف مماثل، سارع ترامب في ذروة التوتر بين الهند وباكستان في ربيع العام الجاري للإعلان أنه نجح في وقف حرب نووية بين البلدين. لكن رئيس وزراء الهند سارع إلى تكذيبه علناً ونفى وجود أيّ تدخل للرئيس الأمريكي في اتفاق التهدئة مع إسلام آباد، بينما التزمت باكستان الصمت حفاظاً على مصالحها مع واشنطن.
ولو امتلك قادة آخرون الشجاعة نفسها لفنَّدوا جميعاً أي دور جاد لترامب، أو أقرُّوا بأنهم اضطروا إلى مجاراته والاستماع إليه اتقاءً لشره لا إيماناً بما يفعل.Bottom of Form
القدس العربي