من أبرز مظاهر بناء الدولة في
العراق بعد 2003، الإصرار على صناعة قوانين تضمن تكريس الهويات الفرعية في العراق، بدلا من قوانين عامة مجردة تنظم الحياة والعلاقات بين الأشخاص في المجتمع تنطبق على الجميع دون تعيين، وعلى الوقائع كافة دون تحديد، لحماية الحقوق وتحقيق العدالة وضمان استقرار المجتمع، لكن بدلا من أن يكون القانون دعامة أساسية للديمقراطية لأن كما قال اللورد دينيس لويد في كتابه «فكرة القانون» : «مادام من غير الممكن تطبيق المساواة الصارمة في كل المجالات، فإن التعبير الصحيح عن التنظيم الديمقراطي للمجتمع هو المساواة القانونية (المساواة أمام القانون)… إضافة إلى مبدأ عدم التمييز بسبب العرق أو اللون أو العقيدة».
فبالعودة إلى مسودة
الدستور العراقي التي قدمت إلى «الجمعية الوطنية» بتاريخ 15 آب 2005، سنجد أن المشرع العراقي كان حريصا على تضمين عقدهُ الطائفية والتاريخية في الديباجة البكائية للدستور، ففي تلك المسودة كان هناك نص صريح يتهم مكونا رئيسيا من مكونات الشعب العراقي بالمسؤولية عما يسميه «القمع الطائفي».
يقول النص: «مستذكرين مواجع القمع الطائفي من قبل الطغمة الحاكمة ضد الأغلبية»، والذي عدل في النص النهائي الذي تم الاستفتاء عليه إلى «مستذكرين مواجع القمع الطائفي من الطغمة المستبدة»! فالنص الأول يماهي بين «الطغمة الحاكمة» والسنة العرب في العراق، ويقسم العراقيين الى أقلية سنية مستبدة مفترضة وأغلبية شيعية مقموعة! لسنا هنا بإزاء صياغة لغوية غير دقيقة وإنما بإزاء خطاب طائفي بامتياز أولا، وبإزاء منطق يقوم على افتراض اختلافات هوياتية واختلافات ديمغرافية تحكم الصراع، وليس بإزاء «اختلافات سياسية».
ولا يبدو النص الثاني أكثر توفيقا، فهو يعطي الصراع السياسي بعدا « طائفيا « أيضا، ولم تفلح الجملة اللاحقة لهذا النص التي تحاول الحديث عن «مظلومية جماعية» في مواجهة «السلطة» في تحييد هذا البعد الطائفي.
بدليل أن مسودة 15 في سياق الحديث عن «مواجع القمع الطائفي» و«عذابات القمع القومي»، وبشكل تفصيلي، تحدثت عن معاناة «أهالي المنطقة الغربية السنية على يد «الإرهابيين وحلفائهم» وليس على يد «الطغمة الحاكمة» السابقة! بما يعزز السمة غير المتوازنة للديباجة والتي تعكس طبيعة التفكير الذي حكم واضعي النص الذي يعكس التأويل الشيعي/ الكردي لتاريخ العراق الحديث، ولم تفلح توافقات اللحظة الأخيرة في تعديل بعض الصياغات في إخراج النص من تأثيرات السياق الطائفي الذي حكم كتابة الدستور، فهذا النص أعيدت صياغته ليكون كالآتي:
«[ومسترجعين] معاناة أهالي المنطقة الغربية، كبقية مناطق العراق من تصفية قياداتها ورموزها وشيوخها، وتشريد كفاءاتها وتجفيف منابعها الفكرية والثقافية». فهنا نحن أمام معاناة أفراد، بصفتهم وأوصافهم، وليس بإزاء معاناة جماعة على يد «طغمة حاكمة مستبدة»، أي أن خطاب المماهاة لا ينفك حاضرا!
بعد 23 سنة من لحظة كتابة الدستور هذه، بقيت الطبقة السياسية العراقية رهينة لعقدها تلك، ولم تسع لتجاوزها، بل أضيف اليها أفراد يتعاملون مع هذه العقد بوصفها شيئا طبيعيا ومنطقيا لا بد من تكريسه والتأكيد عليه في كل مناسبة فلا يمكن مثلا فهم الإصرار على جعل «عيد الغدير» عيدا رسميا للدولة العراقية مع كل ما يحمله من خطاب صريح يكفر أكثر من نصف الشعب العراقي (الفكرة الجوهرية لهذا العيد، والذي يطلق عليه أيضا عيد الولاية، أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أوصى بالإمامة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه من بعده، وأن منكر هذه الولاية كافر!) أو تشريع مدونة للأحوال الشخصية وفق المذهب الجعفري/الشيعي، تعود في لغتها ومحتواها إلى القرنين الرابع والخامس الهجري، إلا في هذا السياق.
إن مراجعة هذه المدونة يكشف انتهاكات صريحة لأحكام الدستور العراقي نفسه، فمن المعروف أن هذا الدستور كان خاضعا لهيمنة أمريكية معلنة، وهو ما منع في تلك اللحظة كتابته بالطريقة التي كان يريدها العراقيون، تحديدا فيما يتعلق بالأحكام الشرعية؛ فعندما أصر الإسلاميون السنة والشيعة على تضمينه فقرة تنص على أنه «لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الاسلام»، أصر الأمريكيون على أن تلحقها فقرة ثانية تنص على أنه «لا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية». لكن التجربة أثبتت أن الفاعلين السياسيين الشيعة مصرون على المضي، بشكل منهجي، على أن تكون الشريعة الإسلامية، بمتنها الشيعي، هي مصدر التشريع الأوحد دون حتى ضرورة لمراجعتها أو إعمال للعقل فيها.
ومن هذه الانتهاكات مثلا؛ أن الدستور قرر أن «العراقيين متساوون أمام القانون دون تمييز بسبب الجنس»، لكن المدونة الجعفرية نسفت هذ الحكم الدستوري؛ فليس ثمة مساواة بالمطلق بين الرجل والمرأة حيث جاءت هذه الوثيقة ذكورية بوضوح، وتعاملت مع المرأة بوصفها أداة للمتعة والخدمة فقط، وليس بوصفها إنسانا حقيقيا له الحقوق نفسها التي للرجل! من بين هذه الأحكام أن الزوجة لا ترث سوى المنقولات في حالة وفاة زوجها، وأنها لا ترث الأرض المملوكة للزوج لا عينا ولا قيمة، في حين يرث الزوج كل ما تتركه الزوجة دون أي استثناءات!
ونصت المدونة على أنه يجوز للمرأة أن تشترط على الزوج في عقد الزواج أن لا يتزوج عليها، وألا يطلقها إلا بموافقتها، ولكنه إذا لم يلتزم بهذين الشرطين وتزوج اخرى لن يبطل العقد «وإن كان آثما شرعا»، ولو طلقها بدون موافقتها صح «وإن كان آثما شرعا»!
وقرر الدستور أيضا أنه «يمنع أي شكل من أشكال العنف والتعسف في الأسرة»، لكن المدونة الجعفرية أعطت للرجل حقا مطلقا في ضرب الزوجة ومعاملتها بخشونة، إذا كان هناك مبرر، والمبرر هنا يقرره الزوج طبعا!
والحقيقة أن خطورة هذه المدونة هي في تضمينها أدوارا للمراجع/ رجل الدين، تنقض فكرة الدولة حيث تعطي لرجل الدين سلطة فوق سلطة الدستور الذي قرر «أن القضاء مستقل لا سلطان عليه لغير القانون»، كما أنها نزعت عن القاضي سلطة الحسم في بعض القضايا، في استنساخ واضح لفكرة الولي الفقيه؛ فالمدونة نصت على أنه «إذا تصدى المرجع الديني لممارسة شيء من الصلاحيات الممنوحة للقاضي في مواد هذه المدونة، وهي له بالأساس حسب الفقه الجعفري، ووثق ذلك بكتاب صادر منه او من مكتبه، يلتزم بمقتضاه من قبل قاضي محكمة الاحوال الشخصية»!
فالمدونة، مثلا، تشترط موافقة المرجع الديني على طلاق الزوجة في ثلاث حالات؛ بينها «إذا كان الزوج يعتدي على زوجته بالضرب أو غيره بلا مبرر ولا يكف عن ذلك»!
إن تهميش الدستور، والاحتكام إلى مرجع ديني غير محدد مع ما يعنيه ذلك من إمكانية تغيير الأحكام الصادرة عنه، لا يمكن التعاطي معها على أنها اجتهادات شخصية، بل هي مسعى منهجي لتقويض فكرة الدولة نفسها، فالفقه الشيعي لا يعترف إلا بالدولة التي سيشكلها الإمام الغائب عند ظهوره!
القدس العربي