مقالات مختارة

العراق: الدولة الطائفية والمجال العام!

يحيى الكبيسي
الأناضول
الأناضول
لم تعد الأيام العشرة الأولى من شهر محرم في العراق، وصولا إلى يوم عاشوراء مجرد مناسبة لاستعادة واقعة الطف بسرديتها الشيعية، أو مناسبة لترسيخ الهوية الشيعية، بل تحولت إلى مناسبة لاحتكار المجال العام وفرض سردية قسرية على الجميع، مع كل ما يرتبط بهذه السردية من خطاب كراهية ضد الآخر، أو إهانة رموزه وسبها علنا، في ظل تحيز الدولة ومحاولتها الممنهجة لفرض هذا الواقع على أنه «ممارسة طبيعية» في سياق ما أطلقنا عليه «تطبيع الطائفية» في العراق!

ولا يمكن النظر إلى هذا الأمر على أنه مجرد «حالة استثنائية» ترتبط بالبعد الشعبوي للطقوس الشيعية المرتبطة بواقعة الطف، والذي عجز مراجع الشيعة أنفسهم عن التصدي لها أو وقفها. في العام 1928 نشر العلامة الشيعي محسن الأمين العاملي كتيبه «رسالة التنزيه لأعمال التشبيه» الذي انتقد فيه بعض هذه الطقوس بينها (التطبير) وعدها عملا محرما يخالف الشرع، وقامت القيامة يومها في النجف (وأصبح السقاة في تلك السنة يلعنون محسن الأمين العاملي وهم ينادون لشرب الماء، بدلا من لعن يزيد بن معاوية) فقد تحول الأمر إلى إرادة حقيقية لفرض هوية أحادية على الدولة، واحتكار المجال العام لصالح سردية بعينها دون غيرها، وهنا لا يقتصر فرض هذه السردية على حادثة تاريخية وحدها بل امتد هذا الفرض ليطال كل ما جرى ويجري قبل 2003 وبعده، في سياق ما يعرف بالحاكمية الشيعية.

وقد كررنا فيما كتبنا سابق، أن الطائفية لا تتحقق إلا عبر الدولة نفسها، والدولة العراقية بعد عام 2003 لم تتعلم من درس فشل الدولة العراقية التي تشكلت عام 1921 وانتهت عام 2003 بفعل الاحتلال الأمريكي. بل قررت السير في مسار الفشل نفسه، وبشكل متطرف، عبر انحيازها إلى مدونة دينية/ مذهبية دون أخرى، والاعتراف بسردية دون أخرى، ومحاولة فرضها على الخطاب الرسمي والمجال العام، مع جهل تام بما يمكن أن يؤول إليه هكذا مسار من تقويض لمنطق الدولة نفسها خصوصا في بلد متنوع كالعراق!

الدولة الطائفية اليوم لم تحاسب مثلا أحدا من (الرادود تطلق على المنشد الديني الذي يقرأ أشعار الرثاء فيما يرتبط بمقتل الإمام الحسين في الحسينيات ومجالس العزاء) الذين يستخدمون المنابر لبث خطاب كراهية، ويمعنون في هذه المناسبات في سب شخصيات من الصحابة أو السيدة عائشة أم المؤمنين بأقذع العبارات، ولا تحرك الدولة ساكنا لمنع هكذا ممارسات!

مع أن ثمة مادة قانونية صريحة في قانون العقوبات العراقي تتعلق بالجرائم الماسة بالشعور الديني، تنص إحدى فقراته على عقوبة «من أهان علنا رمزا أو شخصا هو موضع تقديس أو تمجيد أو احترام لدى طائفة دينية»!

ولم يقف الأمر عند حدود السب والشتم، بل تجاوز ذلك إلى «تكفير» صريح لكل من لا يؤمن «بولاية علي»، أي بالسردية الشيعية التي تقول إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أوصى بالولاية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه في غدير خم، وهو ما ترفضه السردية السنية مطلقا، فالتكفير العلني هنا هو لما يزيد عن نصف الشعب العراقي، ولما يزيد عن 1.8 مليار مسلم، ولم يقتصر على عامة الناس أو على الرواديد في الحسينيات بل تجاوزه إلى الدولة العراقية نفسها التي قررت جعل يوم «عيد الولاية أو عيد الغدير» عطلة رسمية، انحيازا منها إلى السردية الشيعية، دون أدنى اعتبار إلى الحمولة التكفيرية لهذه المناسبة وموقف نصف الشعب، الذي تسُوسُه، من هذا الانحياز!

في مقال سابق قلنا إن سلطات الدولة ومؤسساتها نفسها تعمل على ما ٍسمّيناه «تطييف الدولة»، عبر قوانين وقرارات رسمية. وأن ثمة غفلة أو تغافلا عن ما تشكله تلك القوانين والقرارات من صدوع عقائدية واجتماعية وسياسية وحتى أمنية. فمن يراجع قانون «إدارة العتبات المقدسة والمزارات الشيعية» رقم 19 لسنة 2005 سيجد أن هذا القانون يحتكر فكرة أهل البيت لمصلحة الشيعة حصرا، دون اعتبار للحقائق الدينية والتاريخية والاجتماعية، ومثال على ذلك القانون الذي سُن من أجل إدارة مرقد الإمامين الهادي والعسكري في سامراء واعتباره جزءا من «المراقد الشيعية» التي يديرها الوقف الشيعي، مع أن مدينة سامراء هي مدينة ذات مجتمع سني بالكامل، وعشائرها تنتمي بالنسب الى آل البيت!

بل دخل هذا التطييف إلى مناهج التعليم نفسها وعلى مستوى وزراة التربية، وعلى مستوى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي؛ حيث نجد كلية العلوم الإسلامية في جامعة بغداد، مثلا، تصدر قرارا يحظر كتب العالمين ابن تيمية وابن القيم الجوزية، بل وتمنع الاستشهاد بهما في الرسائل والأطاريح والتدريس والمناهج الدراسية والكتب المساعدة، بدعوى أن كتاباتهم «تثير الفرقة والتجزئة»! لكنها لم تمنع، في الوقت نفسه، عشرات المؤلفات/ والمؤلفين الشيعة الذين لا تثير كتاباتهم «الفرقة والتجزئة» وحسب، بل تتضمن خطابا تكفيريا صريحا، بل إن الوزارة نفسها، ولأسباب طائفية بحتة، فرضت مصادر ومراجع لأشخاص يتبنون هذا الخطاب التكفيري ككتب منهجية أساسية في الجامعات الرسمية والأهلية، يدرس فيها طلبة من مذاهب مختلفة، حتى الذين لا يؤمنون بالمقدمات التي ينطلق منها هؤلاء المؤلفين.

وكمثال على ذلك أن أحد هذه الكتب التي فرضت قسريا على طلبة من مختلف المذاهب، وهو كتاب «منة المنان في الدفاع عن القرآن» يشرح المؤلف ما يقوله القاضي عبد الجبار حول مفهوم «الطاعات» وأن «الكفار والفسقة» ليس لهما طاعات إطلاقا، فيتحدث عن ثلاثة تقريبات لمعنى هذا الحكم، منها أنه: «لا تقبل طاعة عبد إلا بولاية أهل البيت، ومعه فإن كانت الولاية موجودة فالطاعة موجودة او أن العمل طاعة فعلا. وإلا لم يكن طاعة، وإن توهم ذلك»! وفي شرحه لسورة طه يقول: «أعمال الكفار باطلة، والأخبار المستفيضة وردت بإطلاق الكافر على المخالفين لإنكارهم النصوص على الأئمة عليهم السلام»!

وفي كتيب آخر بعنوان «بحث حول الإمامة» لأحد المؤلفين الذين تم فرض تدريس بعض كتبهم قسريا أيضا، يقول إن ثمة اتجاهين رئيسيين رافقا نشوء الأمة الإسلامية؛ الأول الاتجاه الذي «يؤمن بالتعبد بالدين وتحكيمه والتسليم المطلق للنص الديني في كل جوانب الحياة» ويمثله الشيعة، والثاني اتجاه يؤمن «بإمكانية الاجتهاد، وجواز التصرف بالتغيير والتعديل في النص الديني وفقا للمصالح» ويمثله السنة. وهذا خطاب تكفيري محض، لأنه يتهم السنة بأنه قد غيروا وعدلوا النص الديني، والنص المقصود هو السردية الشيعية حول ولاية/ إمامة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو ما يعني أن «السنة» قد خالفوا الله ورسوله في هذه الوصية المفترضة!

لا يمكن أن تبنى الدولة بالغلبة وبالقسر، أو عبر إهانة معتقدات مواطنيها وتكفيرهم، فخطابات العقائد كلها تقوم على فكرة «الفرقة الناجية» و«الطائفة المنصورة»، لهذا يجب أن تبقى الكتابات المتعلقة بها الشان في متون الكتب، أو في المجالات الضيقة التي تدرس تلك المتون، وأن لا تتلاعب بها الدولة، وتستخدمها لغايات سياسية، أوغايات تتعلق بالتحيزات الطائفية للقائمين عليها، لأن ذلك وصفة مؤكدة للخراب!

القدس العربي
التعليقات (0)