مقالات مختارة

العراق: التسريبات وتعرية القضاء!

يحيى الكبيسي
واع
واع
كتبنا الأسبوع الماضي عن انقلاب رئيس مجلس القضاء الأعلى على رئيس المحكمة الاتحادية العليا، وعن الأسباب الكامنة وراء ذلك، وعن تحول القضاء في العراق إلى اقطاعية خاصة، وأيضا عن السياق السياسي لحدث من هذا النوع في العراق. اليوم أخذت تبعات هذا الانقلاب في الظهور وبدأت حملة تسريبات تمس القضاء الأعلى الذي لم يجرؤ أحد على المساس به، وإن كان الجميع يدرك أن هذه التسريبات هي مجرد ضرب تحت الحزام لن ينتج عنها شيء!

في 6 تموز 2020، اغتيل الدكتور هشام الهاشمي أمام بيته وصورت كاميرات المراقبة عملية الاغتيال هذه بوضوح! وقد جاء هذا الاغتيال بعد نشر الهاشمي لتغريدة في 4 آذار 2020 مرفقة بصورة وتعليق كشف فيه أن الاسم الحقيقي لأبي علي العسكري (اسم حركي لرجل ميليشيا غالبا ما ينشر تغريدات مثيرة للجدل) هو حسين مؤنس عضو مجلس شورى كتائب حزب الله»، وقد ربط الكثيرون حينها بين هذه التغريدة واغتياله.

وقد ظهرت شخصيا على قناة الحرة في اليوم التالي لمقتله، وقلت إن اغتيال الهاشمي رسالة للجميع بأن هذه الميليشيات محصنة ولا يمكن المساس بها، وأن أي طرف يتجرأ على ذلك سيتم قتله.

بعد حادثة الاغتيال هذه وفي 27 آب 2020، أصدر رئيس مجلس الوزراء العراقي السابق أمرا ديوانيا بالرقم 29، يقضي بتشكيل «لجنة دائمة للتحقيق في قضايا الفساد والجرائم الهامة»، وقد تشكلت هذه اللجنة من ضابط برتبة فريق في وزارة الداخلية، وممثلين عن الأجهزة الأمنية، وهيئة النزاهة، وبمشاركة قضاة يسميهم مجلس القضاء الأعلى ونائب مدع عام، للإشراف على إجراءات التحقيق.

وقد أشرنا حينها إلى انتهاك هذه اللجنة أحكام الدستور، لكنّ مجلس القضاء الأعلى لم يعترض عليها مطلقا، وكان طرفا رئيسيا فيها، وقد أصدر أحكاما عديدة بناء على تحقيقاتها، وبعض من حكم عليهم ما زالوا يقضون عقوبتهم في السجن (من بينهم أحمد الساعدي رئيس هيئة التقاعد العامة الأسبق الذي حكم عليه بالسجن لمدة 6 سنوات في كانون الأول 2021)!

وكان من بين ما قامت به هذه اللجنة إلقاء القبض على قاتل الهاشمي بتاريخ 16 تموز 2021، وتبين أنه ضابط برتبة ملازم أول في وزارة الداخلية، وبُثت اعترافاته على القناة الرسمية للدولة وتحدث، حينها، بيان وزارة الداخلية عن «ثلاثة متورطين آخرين» لم تذكر أسماؤهم بعد ذلك أبدا! ثم أصدر القضاء بتاريخ 7 أيار 2023 حكما بالإعدام على القاتل. في اليوم نفسه كتبت في مجموعة على الواتساب البوست الآتي: «قضية هشام الهاشمي لا تختلف عن قضية مجزرة مسجد مصعب بن عمير عام 2014، حكم ابتدائي بالإعدام، ثم استئناف فتمييز فتسويف للقضية فتبرئة للقتلة، وهذه هي سياسة منهجية للإفلات من العقاب»!

وبدا واضحا حينها أن ملاحقة هذه اللجنة لشخصيات سياسية ورجال أعمال بتهم تتعلق بالفساد، ولرجال ميليشيات (مثل اعتقال قاسم مصلح القيادي في الحشد الشعبي بتهمة اغتيال ناشط في كربلاء) قد بدأ يثير حفيظة الطبقة السياسية العراقية (المتواطئة في الأصل مع هؤلاء في سياق النظام السياسي الكليبتوقراطي/ الزبائني الذي يحكم العراق) فضلا عن الدولة الموازية التي تمثلها الميليشيات.

وانتهى الأمر إلى قيام والد المتهم بقتل الهاشمي نفسه، برفع دعوى أمام المحكمة الاتحادية يطالب فيها بالحكم بعدم دستورية اللجنة، وقد حكمت المحكمة الاتحادية في 2 آذار 2022 بعدم صحة الأمر الديواني رقم 29، وإلغائه لمخالفته المادة 47 من الدستور ولمبدأ استقلال القضاء واختصاصه بتولي التحقيق والمحاكمة!

لتكتمل المهزلة بقرار صادر عن محكمة التمييز بتاريخ 10 آب 2023 بنقض حكم إعدام قاتل الهاشمي، وسوغت المحكمة قرارها بأن لجنة الأمر الديواني رقم 29، التي تولت التحقيق في القضية، «ليست لديها أي صلاحية قانونية للتحقيق في الجريمة» وهي حجة مضحكة حقيقة، لأن القضاء نفسه كان طرفا في هذه اللجنة وفي هذه القضية بالتحديد؛ فقد تشكلت هيئة تحقيقية بموجب الأمر القضائي رقم 126/ ق/ أ في 6 أيلول 2020 وهي التي استجوبت المتهم، وأحالته على المحكمة وفق المادة 4/ 1 من قانون مكافحة الإرهاب!

وكالعادة، تواطأ الجميع على الصمت، ولم يجرؤ أحد على اتهام القضاء بالتغطية على القتلة والسماح لهم بالإفلات من العقاب، وبالتلاعب بالدستور والقانون!

ثم جاءت التسريبات لتفضح ذلك كله، بدأت بتسريب فيديو يوثق اعتراف المتهم بالصورة والصوت بجريمته ويذكر أسماء المحرضين على الاغتيال (وكان من بين من ورد اسمه في هذا الفيديو حسين مؤنس، الذي أصبح نائبا في مجلس النواب العراقي بعد انتخابات 2021)!

وقد أصدر مجلس القضاء الأعلى بيانا كان فضيحة أكبر من فضيحة التسريب نفسها؛ حيث تجاهل البيان اعتراف القاتل بجريمته، وقال إن المتهم المفرج عنه «لم يذكر في أقواله ما تم ذكره في الفيديو المسرب» وناقض مجلس القضاء نفسه بنفسه أيضا حين قال عن الفيديو «ويبدو واضحا تصويره من قبل أحد ضباط الشرطة» وأن نشر هذا الفيديو يعد «مخالفة للإجراءات التحقيقية لتضليل الرأي العام»!
ثم ظهر تسريب ثان عرى مجلس القضاء الاعلى وكشف كذبه لأن التسريب، هذه المرة، كان لأوراق التحقيق القضائي كاملة، ومكتوب في أعلى الأوراق بوضوح: مجلس القضاء الأعلى/ الهيئة التحقيقية القضائية المشكلة بموجب الأمر القضائي ذي العدد 126/ ق/ أ/ في 6/ 9/ 2020، وفي نهاية الأوراق جميعها هناك ستة توقيعات توزعت كالآتي:

توقيع ثلاثة قضاة، وتوقيع نائب المدعي العام، وتوقيع المتهم ومحاميه، وقد ذكرت أسماء المتهمين الذين شاركوه في الجريمة وعددهم 7 متهمين جميعهم ينتمون إلى كتائب حزب الله، وفيه اعتراف بأن السلاح المستخدم في عملية الاغتيال هو المسدس الحكومي الشخصي للقاتل، وقد ضبط معه عند القبض عليه. وورد في أوراق التحقيق أيضا اسم حسين مؤنس بوصفه المسؤول المباشر عن أحد المتهمين، وأن الأول هو من أمر الثاني باغتيال الهاشمي بحجة أنه يقوم بتزويد القوات الأمريكية بإحداثيات عن أماكن تواجد ومقرات المعسكرات التابعة لكتائب حزب الله.

وما ورد في الأوراق التحقيقية هي المعلومات نفسها تقريبا التي وردت في الفيديو المسرب، بل كانت أكثر تفصيلا ما يعني أن بيان مجلس القضاء الأعلى من أن المتهم لم يذكر في أقواله ما ذكره في الفيديو، كان تدليسا محض!

في أي دولة محترمة لديها سيادة قانون، وأدنى مستوى من المعايير الأخلاقية، تقوم الدنيا ولا تقعد مع هكذا حدث، أما في العراق، فلا تأثير للفضيحة مهما كان وزنها ووزن الجهة المعنية بها، فالجميع يعرف أن علاقات القوة هي الحاكمة وليس الدستور أو القانون أو المنطق أو الأخلاق، وأن ثمة تواطأ جماعيا يتيح ذلك. والجميع يعرف أن الميليشيات/ الدولة الموازية ما كانت لتسمح، في حادثة اغتيال الدكتور الهاشمي، بمحاكمة القاتل من الأصل، لولا أنهم قد حصلوا على ضمانات، من القضاء نفسه، بأن «رجلهم» سيخرج في النهاية رافعا رأسه، وأن المحرضين والشركاء الذين وردت أسماؤهم في أوراق التحقيق الرسمية، لن يُحاكموا ولن يظهروا في الصورة!

القدس العربي
التعليقات (0)

خبر عاجل