حين يتعلق
الأمر بانتقاد النظام الانقلابي في
مصر يخلع النظام ربطة عنقه الدبلوماسية ويرتدي ثوب
"البلطجة السياسية"، فنراه يختطف ويهدد في الخارج ويستعرض في الداخل؛ يرفع
الحواجز الأمنية عن سفارة هنا ويطلق بلطجيته أمام سفارة هناكن فقط ليُثبت أنه قادر
على البطش متى تعلق الأمر بكرسي الحكم وصورة رأس النظام. أما إذا أراد المواطن المصري
أن يقف وقفة سلمية فالقمع جاهز والرصاص حاضر والاعتقال قرار مُعلّب سلفا.
لكن ما
إن يصبح الأمر متعلقا بوجود مصر كدولة وبحياة شعبها وحقه في الماء حتى يلوذ النظام
بصمتٍ يشبه صمت قرود الحكمة الثلاثة: لا يرى، لا يسمع، لا يتكلم. هنا يسقط القناع ويتضح
أن الوطن ليس أولوية، بل مجرد خلفية رمادية في مشهدٍ بطله الأوحد هو
السيسي.
تصريح
آبي أحمد الأخير: "لقد دخلنا حقبة جديدة لن نساوم فيها أو نتفاوض على المصالح
الإثيوبية"؛ ليس مجرد جملة سياسية بل هو إعلان
سيادة مكتملة على النيل وتشييع
رسمي لأي تفاوض جاد.. إثيوبيا ترفع رايتها على مجرى الحياة، ومصر الرسمية تكتفي بالمشاهدة
من شرفة الخطابات الإنشائية.
التناقض الفاضح بين "البلطجة عند الهامش" و"العجز عند الجوهر" يلخص عقلية النظام: حين يخص الأمر بقاءه فهو ضبع يزمجر، وحين يخص الأمر بقاء مصر يتحول إلى طيفٍ أبكم، إنها سياسة البقاء على العرش ولو هلك العرش ذاته
هذا التناقض
الفاضح بين "البلطجة عند الهامش" و"العجز عند الجوهر" يلخص عقلية
النظام: حين يخص الأمر بقاءه فهو ضبع يزمجر، وحين يخص الأمر بقاء مصر يتحول إلى طيفٍ
أبكم، إنها سياسة البقاء على العرش ولو هلك العرش ذاته.
لكن ما
وراء هذه الصورة ليس مجرد أزمة سياسية عابرة، بل هو انعكاس لانقلاب في معادلة الحكم
والدولة؛ مصر التي كان النيل عمود وجودها منذ آلاف السنين، تجد نفسها لأول مرة في التاريخ
الحديث عاجزة عن حماية مصدر حياتها. فكل الملوك والفراعنة والسلاطين والرؤساء تعاملوا
مع النيل كخط أحمر لا يقبل المساومة، بينما اليوم يُدار هذا الملف بمنطق البيانات الصحفية
واللقاءات البروتوكولية، لا بمنطق الصراع على الوجود.
إن مقارنة
بسيطة مع دول أخرى تكفي لفضح حجم الفجوة. تركيا، على سبيل المثال، لم تتردد في استخدام
القوة الناعمة والخشنة لحماية مصالحها المائية في نهري دجلة والفرات، وكذلك العدو الصهيوني
ذاك الكيان المحتل، جعل من ملف المياه جزءا من عقيدته الأمنية والعسكرية، أما مصر،
صاحبة التاريخ الأطول مع النيل، فقد تركت شريانها الأساسي رهينة قرارات أديس أبابا،
مكتفية بالتصريحات المكرورة حول "الحقوق التاريخية".
ولأن الطبيعة
لا تعرف الفراغ، فإن عجز النظام عن حماية نيل مصر فتح الباب لتكالب القوى الإقليمية
على الجسد المصري؛ الإمارات والسعودية تمددان قبضتهما عبر الاستحواذ على الأراضي الزراعية
والشركات الاستراتيجية، فتتحول الأزمة المائية إلى أداة ابتزاز اقتصادي. أما إسرائيل،
فتجد في الانكسار المصري فرصة ذهبية لإحكام مشروعها القديم بالتحكم في منابع المياه
وربط مستقبل مصر بقبضة تل أبيب، لتصبح القاهرة وللمرة الأولى في تاريخها أسيرة مزيج
من العجز الداخلي والوصاية الخارجية.
النظام الذي يصر على تصوير نفسه كـ"حامي الدولة" يثبت يوما بعد يوم أنه أخطر على الدولة من خصومها، فالأوطان لا تنهار بضربة عسكرية من الخارج بقدر ما تنهار بخيانة حكامها حين يواجهون تهديدات الوجود ولا يتحركون لإنقاذ أوطانهم
الخلل
هنا ليس في غياب القوة وحدها، بل في غياب تعريف واضح للأمن القومي. فالنظام يرى أن
الأمن يعني حماية الكرسي وإخماد أي صوت معارض، بينما الأمن الحقيقي هو ضمان حق الشعب
في الحياة والموارد. لذلك نرى مفارقة مريرة: السجون ممتلئة بالطلاب والصحفيين والنشطاء،
بينما سد النهضة يعلو جدارا بعد جدار بلا رد فعلي ذي قيمة، والأخطر أن استمرار هذه
المعادلة يفتح الباب لمستقبل أشد قتامة. فحين يفرغ النيل أو يقل جريانه، لن تكون الأزمة
أزمة زراعة فقط، بل أزمة وجود كامل: نزوح جماعي من الريف، وانهيار الأمن الغذائي، وتوترات
اجتماعية واقتصادية ستنفجر في وجه الجميع، عندها سيتضح أن صمت اليوم ليس حيادا ولا
مشاركة في جريمة بحق وطن له تاريخ بعمر حضارات الأرض، بل هو الجريمة ذاتها.
النظام
الذي يصر على تصوير نفسه كـ"حامي الدولة" يثبت يوما بعد يوم أنه أخطر على
الدولة من خصومها، فالأوطان لا تنهار بضربة عسكرية من الخارج بقدر ما تنهار بخيانة
حكامها حين يواجهون تهديدات الوجود ولا يتحركون لإنقاذ أوطانهم. ما نراه اليوم هو تجسيد
لهذه الحقيقة المؤلمة: وطن يُختزل في شخص، وكرسي يُقدم على نهر، وشعب يُترَك لمصير
مجهول.
هكذا تتضح
المعادلة النهائية: بلطجة عند الهامش، عجز عند الجوهر. وإن لم تُكسر هذه المعادلة قريبا،
فإن التاريخ قد يسجل أنه كان هنا يوما دولة اسمها مصر حكمها نظام لم يفقدها شريان حياتها
فقط، بل فقد مصر ذاتها.