تحل الذكرى السادسة والخمسون لحريق المسجد الأقصى المبارك في الحادي والعشرين من آب/أغسطس 2025، فيما لا تزال
القدس وأسوارها ومقدساتها تعيش تحت وطأة حريق متجدد يتخذ أشكالاً متعددة من التهويد والاستيطان والتقسيم الزماني والمكاني. ففي ذلك اليوم من عام 1969 أقدم المتطرف الأسترالي مايكل دنيس روهان على إضرام النار في المصلى القبلي بالمسجد الأقصى، لتأتي ألسنة اللهب على منبر صلاح الدين الأيوبي وأجزاء واسعة من المسجد، في جريمة صادمة هزّت وجدان الأمة الإسلامية والعالم بأسره.
ورغم أن الأوقاف الإسلامية، وبدعم ورعاية هاشمية متواصلة، تمكنت من ترميم الأضرار وبناء منبر جديد مطابق للمواصفات التاريخية، فإن
الاحتلال لم يتوقف منذ ذلك التاريخ عن إعادة إنتاج الحريق بصورة أشد خطراً عبر سياسات منظمة تستهدف تهويد القدس واقتلاع هويتها العربية والإسلامية.
منذ احتلال القدس الشرقية عام 1967، انتهكت إسرائيل الوضع التاريخي والقانوني القائم في المسجد الأقصى، وأدخلت تعديلات جذرية على نظام الحراسة والإدارة، وسمحت منذ عام 2003 باقتحامات المستوطنين تحت حماية عسكرية رسمية، الأمر الذي مثل خطوة عملية لفرض التقسيم الزماني والمكاني على غرار ما جرى في الحرم الإبراهيمي في الخليل.
هذه الانتهاكات اليومية ليست سوى مقدمة لمخطط استراتيجي أشمل يسعى إلى فرض السيادة الإسرائيلية الكاملة على الأقصى ومحيطه، عبر حفريات وأنفاق في البلدة القديمة وسلوان والشيخ جراح، وزرع بؤر استيطانية متاخمة للحرم القدسي، والتضييق على أعمال الترميم والصيانة، وصولاً إلى محاولات تحويل المسجد إلى مزار سياحي يخضع لإشراف سلطات الاحتلال.
المجتمع الدولي لم يتوقف عن إدانة هذه السياسات واعتبارها خرقاً فاضحاً للقانون الدولي. فقد نص قرار مجلس الأمن رقم 252 لعام 1968 على أن جميع الإجراءات الإسرائيلية التي غيرت وضع القدس باطلة ولاغية، وأكد القرار 478 لعام 1980 رفض المجتمع الدولي لقرار إسرائيل ضم القدس واعتباره انتهاكاً للقانون الدولي.
كما أن الجمعية العامة للأمم المتحدة أكدت في قراراتها المتعاقبة أن القدس مدينة محتلة وأن وضعها القانوني لا يمكن تغييره بقرارات أحادية الجانب. وفي عام 2016 اعتمد مجلس الأمن القرار 2334 الذي شدد على أن الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس الشرقية غير قانوني ويشكل عقبة أمام السلام، وهو ما ينطبق على كافة مشاريع التهويد الإسرائيلية.
أما منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) فقد أقرت في قرارات متكررة أن المسجد الأقصى خاص بالمسلمين وحدهم، وأن لا علاقة لليهود به، ووضعت القدس على قائمة التراث العالمي المهدد بالخطر منذ عام 1981، في إشارة واضحة إلى حجم المخاطر التي تتهدد المدينة المقدسة في ظل سياسات الاحتلال.
رغم هذه الشرعية القانونية الدولية، تمضي إسرائيل في تحدي القرارات الأممية غير آبهة بالإجماع العالمي، مستندة إلى سياسة الأمر الواقع وحماية القوى الكبرى التي تغض الطرف عن جرائمها. لكنها لا تستطيع أن تغير الحقيقة التاريخية والدينية والقانونية الراسخة، وهي أن المسجد الأقصى بكل أجزائه ومصلياته وساحاته وأسواره وأبوابه، والبالغ مساحته 144 دونماً، وقف إسلامي خالص لا يقبل المساومة ولا الخضوع للمحاكم الإسرائيلية ولا التشريعات الصهيونية.
إن ذكرى الحريق الأليم ليست مجرد استعادة لمأساة مضت، بل هي إنذار حاضر بأن النيران لا تزال مشتعلة في القدس، وأن المخاطر المحدقة بالأقصى تتضاعف بفعل سياسات التهويد والاقتلاع والتطهير العرقي التي تمارسها إسرائيل يومياً.
وإذا كان العالم قد هبّ عام 1969 مستنكراً جريمة الإحراق، فإن الصمت اليوم إزاء ما يجري من اقتحامات وانتهاكات وحفريات واستيطان هو جريمة مضاعفة وتواطؤ يفتح الباب أمام كارثة أشد خطورة.
القدس اليوم هي اختبار حقيقي لإرادة الأمة العربية والإسلامية ولامتحان صدقية المجتمع الدولي في احترام القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية. فالأقصى أمانة في أعناق مليارَي مسلم، وهو ليس مجرد معلم ديني بل عنوان للهوية والسيادة والكرامة، وحمايته ليست خياراً بل واجباً دينياً وقانونياً وإنسانياً.
وإن استمرار التخاذل العربي والإسلامي عن نصرة القدس سيبقى وصمة عار لا يمحوها التاريخ، فيما ستظل القدس عصية على التهويد، رمزاً للمقاومة والصمود، وجوهر القضية الفلسطينية حتى يتحقق التحرير.
الدستور الأردنية