منذ عقود تم ترسيخ العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة كعلاقة تحالف استراتيجي، إن لم تكن على نفس الدرجة من علاقة أميركا بأوروبا، فإنها تفوقها. وإسرائيل منذ أنشئت في الشرق الأوسط وهي مرتبطة «بحبل سري» أو بمحلول جلوكوز الحياة بالغرب الأميركي - الأوروبي، حتى في مجال الرياضة، حيث إن إسرائيل تنخرط في تصفيات كؤوس الأمم الأوروبية، ولم تشارك لا بمنتخباتها ولا فرقها في أي مسابقات رياضية، ولا مهرجانات فنية أو أدبية، لا آسيوية ولا شرق أوسطية، كما يفترض باعتبار أنها تقع جغرافياً، في الشرق الأوسط وفي غرب آسيا.
وكانت هناك أسباب وعوامل مختلفة دفعت العلاقة بين إسرائيل وأميركا، إلى أن تصبح على المستوى الحالي الخاص، حيث تدافع أميركا عن إسرائيل كما لو كانت واحدة من ولاياتها الخمسين، أول تلك الأسباب والعوامل كان أن إسرائيل نفسها قد أنشت بقرار إمبريالي غربي هو وعد بلفور، وهكذا رعت بريطانيا دعائم إنشاء الدولة العبرية، ما بين الحربين العالميتين، إلى أن أعلن قيامها مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، فكانت الولايات المتحدة أول من اعترف بها في الأمم المتحدة، ثم لأن أميركا تولت زمام قيادة الغرب الإمبريالي بعد تلك الحرب، بدأ الحبل السري الذي يربط إسرائيل بالغرب ينتقل تدريجياً لأميركا، لكن ذلك لم يعنِ انتهاء اعتمادها على دول الغرب الأخرى.
وتكفي الإشارة هنا إلى العدوان الثلاثي، الذي ضم فرنسا وبريطانيا مع إسرائيل ضد مصر العام 1956.
كذلك كان لفرنسا في ذلك العقد من السنين الدور الحاسم، في إنشاء مفاعل ديمونة النووي في صحراء النقب، حيث مكنت فرنسا إسرائيل، وحتى دون علم أميركا من امتلاك القنابل النووية، التي ما زالت لديها بعيداً عن رقابة العالم بأسره، والتي يقدرها المراقبون بعشرات القنابل.
من الواضح أن تطور «مشروع» دولة إسرائيل قد تعرض لعدد من التصورات المختلفة المتتابعة، فلحظة إطلاق وعد بلفور، كان ينظر إليها كمستعمرة غربية الهدف منها هو إبقاء السيطرة الأوروبية على الشرق الأوسط بمنع وحدة البلاد العربية واستقلالها الحقيقي، لضمان السطو على مكونات الطاقة من نفط وغاز التي تحتاجها أوروبا بشدة، ثم بعد الحرب العالمية الثانية أصبحت إسرائيل، كما لو كانت ولاية أميركية خارج حدودها.
بل كانت أيضا بيدقها في الشرق الأوسط الذي تلعب به مقابل بيادق الاتحاد السوفياتي التي كانت في نفس المنطقة، وكانت مصر أهمها، لذا كانت حروب مصر وإسرائيل بالوكالة عن طرفي الحرب الباردة، ولأن الحرب العالمية الثانية حطمت عملياً طرفيها، أي ألمانيا واليابان من جهة، وكلاً من بريطانيا وفرنسا من الجهة المقابلة، فقد خلفت أميركا الغرب الاستعماري، فيما وقف الاتحاد السوفياتي ككابح في وجه هيمنة الغرب المنتصر بقيادة أميركا في تلك الحرب، على كل العالم.
درس الحرب العالمية الثانية يقول إن هناك حروباً، وإن كانت تنتهي بمنتصر ومهزوم، إلا أن بعض الحرب تنتهي بهزيمة الطرفين، فيما يكون طرف ثالث هو المنتصر، أو هو من يتقدم بعد انتهاء الحرب ليحصد النتائج، ومثل هذا المنطق يرسم السؤال اليوم حول إن كان هناك من طرف ثالث سيكون هو الرابح، بعد انتهاء الحرب التجارية الدائرة حالياً بين أميركا التي تسعى للإبقاء على نظامها العالمي أحادي القطبية.
وكل من
الصين وروسيا اللتين تقفان كندّ اقتصادي وعسكري لها، وتتحديان نظامها الذي نشأ بعد انتهاء الحرب الباردة، واللتين كانتا بالمناسبة فيها طرفاً مقابل أميركا، كانت
روسيا وريثة الاتحاد السوفياتي قائداً للطرف الثاني الصريح في الحرب الباردة، فيما الصين كانت في صدارة دول العالم الثالث، أي تلك الدول التي خرجت كدول حرة من عباءة الاستعمار الغربي، ولم تخضع للمعسكر الغربي الأميركي، لكنها في نفس الوقت اختارت طريقاً اشتراكياً غير شيوعي، أو حتى شيوعي لكنه لم يكن ضمن الأممية السوفياتية.
وبذلك كان العالم الثالث أقرب للمعسكر الشرقي منه للغربي، بدليل أن مصر مثلاً وكانت من رواد العالم الثالث، كانت تحارب إسرائيل حليفة أميركا بالسلاح السوفياتي.
كذلك كان حال الهند وهي تحارب باكستان التي كانت دولة محسوبة على الغرب في الحرب الباردة، والمهم اليوم أن العالم وهو يشهد صراعاً محموماً على طبيعة النظام العالمي، تقف فيه أميركا كعدو صريح لكل من الصين وروسيا، ولا يخفى على الدولتين الآسيويتين، ما يقدمه الجمهوريون أو الديمقراطيون الأميركيون من أولوية للصراع مع الصين أولاً أو مع روسيا أولاً، أو إن كان الصراع عسكرياً بالوكالة الأوكرانية أم صريحاً بالتعرفة الجمركية، وجملة الإجراءات العقابية التي يفرضها الأميركيون وغالباً مع الأوروبيين ضد روسيا، إيران، فنزويلا وغيرها من دول العالم.
ومن الطبيعي والمهم الانتباه إلى أن الصراع على النظام العالمي، لم يصل بعد إلى نقطة «كسر العظم» أو حرب الحسم بنتيجة صريحة، إما منتصر أو مهزوم، وربما كان امتلاك الرادع النووي، هو السبب الذي يحول دون ذلك، كما كان الحال طوال نحو نصف قرن من الحرب الباردة، التي شهد العالم خلالها حروباً عسكرية تواجه خلالها السلاح الأميركي والغربي مع السلاح الروسي/السوفياتي والصيني، سواء في فيتنام أو الشرق الأوسط، أو العديد من دول أفريقيا وأميركا اللاتينية إلى حد ما، أو حتى في الحرب الكورية.
هذا الصراع الدائر حالياً، ترافق مع تحول في التصور الداخلي الإسرائيلي حول طبيعة الدولة، ومن ثم وظيفتها إن كان لمواطنيها أو لبعضهم، أو لحلفائها الذين أنشؤوها ولم يرفعوا يدهم عنها بعد مضي أقل قليلاً من ثمانية عقود متتالية، وكان يمكن لإسرائيل بالتعاون مع الغرب، والأميركي منه على وجه الخصوص، أن تفعل ذلك مباشرة مع انتهاء الحرب الباردة، وبالترافق أو حتى مباشرة بعد الترتيبات التي جرت في شرق أوروبا، حيث جرى إسقاط الأنظمة الشيوعية فيها بعد تفكيك حلف وارسو، والتي جرى بعضها مع تدخل عسكري غربي أميركي، كما حدث في صربيا.
تراهن إسرائيل على أن تكسب أميركا الحرب مع روسيا والصين على النظام العالمي
لكن فتح الدول العربية خضع لحسابات أميركية، فضلت التريث لمنع وصول السلفية الدينية للحكم في دول الشرق الأوسط، لكن ذلك لم يمنع أميركا من إسقاط أنظمة لصالح إسرائيل كما فعلت مع العراق بشن حرب عسكرية ضده، ورغم أنها دفعت ثمناً لم يكن حاسماً وجاء أصلاً بمبادرة إسرائيلية نقصد مؤتمر مدريد ثم اتفاق أوسلو، لكن ثلاثة عقود تلت من التحول اليميني داخل إسرائيل خلقت تصوراً آخر لدولة إسرائيل يتجاوز ما ورد لذهن بلفور، وللغرب الأوروبي قبل أكثر من مئة سنة.
اليوم إسرائيل مع اليمين الكاهاني ترى نفسها أميركا الشرق الأوسط، أي أن
نتنياهو حين يتحدث عن تغيير الشرق الأوسط، يقصد إقامة نظام إقليمي خاضع للسيطرة العسكرية والاقتصادية الإسرائيلية، وبشكل تلقائي يتضمن توسيع حدودها الضيقة، بضم كل أرض دولة فلسطين المحتلة، وقضم ما أمكن من أراضٍ سورية ولبنانية، وحتى مصرية وأردنية، لهذا تحرص إسرائيل اليمينية إلى أن تطابق حربها في الشرق الأوسط الحرب الأميركية على الشرق خصوصا.
وتراهن إسرائيل على أن تكسب أميركا الحرب مع روسيا والصين على النظام العالمي، لكن النتائج حتى الآن تظهر بأن «أحلام» الكاهانية الإسرائيلية بقيادة الثلاثي الفاشي، نتنياهو وبن غفير وسموتريتش، ستذهب أدراج الرياح، فحرب جو بايدن ضد روسيا تذهب لأن تكون حرباً خاسرة تماماً، تنتهي بخضوع أوكرانيا لروسيا.
وحرب
ترامب ضد الصين، والتي بدأت - بالمناسبة - في ولايته السابقة، وكانت النتيجة أن واصل الاقتصاد الصيني نموه وتقدمه، حتى صار حالياً في المرتبة الثانية بعد الاقتصاد الأميركي، أما إسرائيل فهي ما زالت تخوض الحرب مع إيران وجبهات المقاومة، ولم تحقق النصر الحاسم بعد عامين، كما فعلت خلال أعوام 1948، 1956، 1967.
الشرق الأوسط