غالبا ما تكون لغة
الجغرافيا السياسية صرحا مبنيا بعناية، مصمما لإخفاء الحقائق القاسية خلف واجهة من
الإنكار المقبول. وفي معجم الصراع
الإسرائيلي الفلسطيني، قلة هي العبارات التي تحمل
من الثقل والكشف ما تحمله عبارة "الهجرة الطوعية". هذا المقترح، الذي تروج
له شخصيات في اليمين الإسرائيلي المتطرف ويجد صداه في دوائر مقربة من الرئيس دونالد
ترامب، يُقدَّم كحل إنساني لترحيل جماعي للفلسطينيين من
غزة. يصوّره المؤيدون على أنه
فرصة لسكان غزة للهروب من جيب مزقته الحرب إلى حياة أفضل في مكان آخر.
ومع ذلك، يكشف التحليل
النقدي للمقترح -في سياقه وآلياته وأوجه تشابهه التاريخية- عن هدف أكثر شرا. فبعد تجريد
الخطة من مصطلحاتها المعقمة، نجد أنها ليست خيارا طوعيا، بل سياسة
تهجير قسري، تتم
هندستها عبر خلق ظروف غير قابلة للحياة. إنها، في جوهرها، إعادة صياغة لنكبة عام 1948،
الكارثة التي شهدت طرد وفرار أكثر من 750 ألف فلسطيني من وطنهم. وتسعى هذه النسخة المحدثة
إلى تحقيق الهدف النهائي ذاته: التحول الديموغرافي لفلسطين التاريخية ومحو الوجود الفلسطيني
من الأرض.
تفكيك المقترح: وهم
الاختيار
الخطة ليست حلا مبتكرا، بل هي تتويج لهدف أيديولوجي طويل الأمد لقطاع من الطيف السياسي الإسرائيلي: "حل" المشكلة الديموغرافية الفلسطينية عن طريق إزالة السكان
اكتسب مفهوم "الهجرة
الطوعية" أو "إعادة التوطين الطوعي" لسكان غزة زخما كبيرا في أوساط
المتشددين الإسرائيليين في أعقاب اندلاع جولة الصراع الأخيرة. فقد دعت شخصيات مثل وزير
المالية بتسلئيل سموتريتش ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير؛ علنا إلى "تشجيع"
هجرة الفلسطينيين من غزة. منطقهم يفترض أنه مع تدمير البنية التحتية في غزة وانهيار
اقتصادها، يجب على إسرائيل تسهيل انتقال سكانها إلى دول أخرى، مع تقديم حوافز مالية
كمحفز.
وقد وجدت هذه الفكرة
جمهورا متقبلا بين بعض الشخصيات المؤثرة في إدارة ترامب. فقد تحدث جاريد كوشنر، صهر
ترامب وكبير مستشاريه السابق، علنا عن إمكانية "إخلاء" أجزاء من غزة وأبدى
موافقته على نقل سكانها. ويشير هذا التوافق إلى أن فترة رئاسية ثانية لترامب قد تشهد
تحول الولايات المتحدة عن معارضتها التقليدية (وإن كانت غير متسقة في كثير من الأحيان)
لنقل السكان، إلى دعمها بنشاط.
يكمن الخداع الجوهري
في كلمة "طوعية"، فالقانون الدولي واضح في التمييز بين الحركة الطوعية والتهجير
القسري. إذ تحظر اتفاقية جنيف الرابعة، في مادتها 49، صراحة "عمليات النقل القسري
الفردي أو الجماعي، وكذلك ترحيل الأشخاص المحميين من الأراضي المحتلة". والعنصر
الأساسي هو الإكراه، ولكي يكون الخيار طوعيا حقا، يجب أن توجد بدائل قابلة للتطبيق.
بالنسبة لأكثر من
مليوني نسمة في غزة، لا يتم تقديم مثل هذه البدائل. لقد أدى التدمير المنهجي للمنازل
والمستشفيات والجامعات والمخابز وأنظمة الصرف الصحي إلى جعل قطاع غزة غير صالح للسكن
بشكل أساسي. فعندما يواجه السكان التهديد اليومي بالقصف، والمجاعة المنتشرة، وانهيار
كل أشكال النظام المدني، فإن "خيار" المغادرة ليس خيارا حرا، إنه قرار يُتخذ
تحت الإكراه الشديد، حيث لا يكون البديل عن الهجرة هو إعادة بناء الحياة في الوطن،
بل مواجهة الأمراض أو الجوع أو الموت. هذا ليس خيارا، بل هو طرد بالإكراه مقنع في صورة
لفتة إنسانية.
السابقة التاريخية:
نكبة عام 1948
لفهم الرفض الفلسطيني
العميق لهذه الخطة، يجب على المرء أن ينظر إليها من خلال عدسة التاريخ. فالنكبة ليست
ذكرى بعيدة، بل هي صدمة تأسيسية ومستمرة في الوعي الفلسطيني. في عام 1948، أثناء الحرب
التي أحاطت بإنشاء إسرائيل، تم إخلاء مئات القرى الفلسطينية من سكانها وتدميرها لاحقا.
وبينما حافظت الرواية التاريخية الإسرائيلية لفترة طويلة على أن الفلسطينيين غادروا
طواعية بناء على طلب القادة العرب، فإن المؤرخين المعاصرين، بما في ذلك المؤرخون الإسرائيليون،
وثقوا حملة منهجية من الهجمات العسكرية والمذابح (مثل دير ياسين)، والحرب النفسية المصممة
لإجبارهم على الفرار.
حينها، كما الآن،
تم التلاعب بمفهوم "الاختيار". فالفلسطينيون الذين فروا من العنف اعتبروا
"متغيبين" عن ممتلكاتهم، التي صادرتها الدولة الجديدة لاحقا بموجب قانون
أملاك الغائبين. ثم مُنعوا من العودة، مما خلق أزمة لاجئين دائمة يبلغ عددهم الآن الملايين.
لقد أعيد تأطير "خيارهم" بالفرار لإنقاذ حياتهم كفعل مغادرة طوعي، وبالتالي
إعفاء الجناة من المسؤولية.
أوجه التشابه دقيقة
بشكل مخيف، فخطة "الهجرة الطوعية" في القرن الحادي والعشرين تردد صدى استراتيجية
عام 1948:
* خلق ظروف غير قابلة
للحياة: في عام 1948، كان ذلك عبر الهجوم العسكري المباشر والخوف. اليوم، يتم ذلك عبر
الحصار الشامل والقصف الاستراتيجي الذي يبيد نسيج المجتمع نفسه.
* عرض مخرج: كان الفرار
من العنف هو المخرج الوحيد آنذاك. والحوافز المالية للانتقال إلى بلد ثالث هي المعادل
الحديث.
* تأطيره كخيار: وُصف
الفرار بأنه قرار طوعي، مع تجاهل السياق القسري.
* منع العودة: ستكون
النتيجة الحتمية هي الفقدان الدائم لحق العودة، مما يرسخ التغيير الديموغرافي.
لذا، فإن الخطة ليست
حلا مبتكرا، بل هي تتويج لهدف أيديولوجي طويل الأمد لقطاع من الطيف السياسي الإسرائيلي:
"حل" المشكلة الديموغرافية الفلسطينية عن طريق إزالة السكان.
الهدف الاستراتيجي:
الهندسة الديموغرافية والضم
خلف خطاب الإنسانية
يكمن المنطق البارد للديموغرافيا. لعقود من الزمان، نظر المتشددون الإسرائيليون إلى
السكان الفلسطينيين، بمعدل مواليدهم الأعلى، على أنهم "تهديد ديموغرافي"
لهوية إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية. ويُنظر إلى وجود ملايين الفلسطينيين في الضفة
الغربية وقطاع غزة على أنه العقبة الرئيسية أمام ضم هذه الأراضي وحلم "إسرائيل
الكبرى".
بإزالة سكان غزة،
تتم إزالة هذه العقبة بالنسبة لتلك المنطقة. يمكن بعد ذلك ضم غزة أو إعادة توطينها
أو الاحتفاظ بها كمنطقة أمنية عازلة دون عبء حكم عدد كبير من السكان المعادين. هذه
ليست نظرية مؤامرة هامشية؛ بل هي الطموح المعلن لأعضاء مؤثرين في الحكومة الإسرائيلية
الحالية، إنهم يتحدثون عن "تقليل" عدد السكان في غزة وإعادة إنشاء المستوطنات
اليهودية.
خطة "الهجرة
الطوعية" هي الآلية لتحقيق هذا الهدف الاستراتيجي، إنها توفر غطاء دبلوماسيا وقانونيا
لما يعتبر، بموجب القانون الدولي، جريمة حرب. يحدد نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية
الدولية "ترحيل السكان أو نقلهم قسرا" كجريمة ضد الإنسانية عندما تُرتكب
كجزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أي مجموعة من السكان المدنيين. من خلال
هندسة وضع "يطلب" فيه الفلسطينيون المغادرة، يأمل المؤيدون في الالتفاف على
القانون الدولي ووضع العالم أمام سياسة الأمر الواقع.
المحو الثقافي: النكبة
الثانية
إنها سياسة تهجير قسري مُخطط لها بدقة تستغل الأزمة الإنسانية لتحقيق أهداف سياسية وديموغرافية طويلة الأمد. إنها النكبة بثوب جديد لجمهور القرن الحادي والعشرين، متسترة بلغة الاختيار والفرصة بينما تعتمد على الإكراه والدمار
لم تكن النكبة مجرد
تهجير مادي، بل كانت أيضا محوا ثقافيا (فعل "إبادة للذاكرة"). فتدمير القرى
تبعه إعادة تسمية منهجية للمناظر الطبيعية، ومحو التاريخ الفلسطيني من الخرائط، والاستيلاء
على التراث الثقافي. لقد كانت محاولة لقطع الصلة بين شعب وأرضه، لجعله يبدو وكأنه لم
يكن هناك قط.
يمتد الدمار الحالي
في غزة إلى ما هو أبعد من المباني السكنية، إنه يشمل الاستهداف المتعمد للمؤسسات الثقافية
والتعليمية: فقد دُمرت الجامعات والمكتبات والمحفوظات والمساجد القديمة والكنائس التاريخية.
هذا ليس ضررا عرضيا؛ إنه تدمير للدليل المادي على تاريخ وهوية واستمرارية الفلسطينيين
في غزة.
التهجير القسري هو
الخطوة الأخيرة في عملية المحو الثقافي هذه. فعندما يُقتلع شعب من أرضه، تصبح قصصه
وتقاليده وذاكرته الجماعية بلا مرساة. إن خطة إفراغ غزة من شعبها هي أيضا خطة لإفراغها
من تاريخها، وخلق صفحة بيضاء يمكن كتابة سردية جديدة عليها، سردية إسرائيلية حصرا.
خاتمة: تحدٍ للنظام
الدولي
إن مقترح "الهجرة
الطوعية" للفلسطينيين من غزة، كما يطرحه المتشددون الإسرائيليون وشخصيات في محيط
الرئيس دونالد ترامب، هو تعبير ملطّف خطير. إنها سياسة تهجير قسري مُخطط لها بدقة تستغل
الأزمة الإنسانية لتحقيق أهداف سياسية وديموغرافية طويلة الأمد. إنها النكبة بثوب جديد
لجمهور القرن الحادي والعشرين، متسترة بلغة الاختيار والفرصة بينما تعتمد على الإكراه
والدمار.
إن تسمية هذه الخطة
باسمها الحقيقي -التهجير القسري- ليس فعلا خطابيا، بل هو فعل من أفعال الوضوح التحليلي.
إنه يعترف بالسياق التاريخي، ويدرك البيئة القسرية، ويفهم الهدف الاستراتيجي النهائي.
بالنسبة للمجتمع الدولي، فإن مقاومة هذه الخطة لا تتعلق فقط بالدفاع عن حقوق الفلسطينيين؛
بل تتعلق بالدفاع عن المبادئ الأساسية للقانون الدولي التي تحظر الاستيلاء على الأراضي
بالقوة والنقل القسري للسكان. إن قبول رواية "الهجرة الطوعية" الملفقة يعني
إضفاء الشرعية على جريمة حرب ووضع سابقة خطيرة للصراعات في جميع أنحاء العالم. فالجدل
ليس حول الكلمات، بل حول ما إذا كانت دروس أحلك فصول التاريخ قد استُوعبت حقا.