في كل الحالات لن يبقى الكيان الصهيوني بعد معركة طوفان الأقصى وشنِّه حرب الإبادة على
غزة كما كان قبلها. لن يقول قادته بعد اليوم إن القضية الفلسطينية قد انتهت وإن “إسرائيل” هيمنت على المنطقة وحَسمت الأمر.. بل ستتم مراجعة جميع الحسابات بعد توقف الحرب وسَيعلم المتطرفون الصهاينة أنهم لن يستطيعوا احتلال فلسطين على المدى البعيد، ولا فَرْض سيطرتهم على الشرق الأوسط والعالم العربي برمته من خلال الاتفاقيات الإبراهيمية المزعومة! كل شيء سيتغير بعد الطوفان رغم ما تبدو عليه غزة من دمار وخراب وقد تعرضت لأعنف همجية صهيونية منذ
الاحتلال.
لقد وضعت معركة طوفان الأقصى حدا لعدة مسلمات كانت تُشكِّل أساس نظرية الحسم الصهيونية لعل أهمها:
– أولا: نهاية “أسطورة” الحرب الخاطفة التي يستطيع من خلالها العدو الصهيوني إلحاق الهزيمة الساحقة بكافة المحيطين به. فنحن نقترب من بداية السنة الثالثة لمعركة طوفان الأقصى ولم تستطع “أكبر” قوة عسكرية في المنطقة كما تدعي حسم المعركة لصالحها رغم الدعم المتواصل وبجميع الأشكال والوسائل من قبل أكبر قوة عسكرية في العالم، إضافة إلى كبرى الدول الغربية مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا… وهذا ليس بالأمر الهين.
إذا أضفنا إلى هذا فشل العدوان الصهيوني الأمريكي على إيران في حسم المعركة لصالحه، وقد استهدف إسقاط النظام في طهران، واضطراره إلى إعلان الاستسلام التام، يتبين لنا سقوط فكرة الانتصار السريع على الخصم وتخويفه بالهزيمة المُبَكِّرة. وهذا أكبر تراجع في العقيدة العسكرية الصهيونية منذ نشأة الكيان سنة 1948. فلأول مرة في تاريخه تصمد مقاومة طيلة هذه المدة وتُكبِّده خسائر كبيرة- لا يقر بمعظمها- على جميع الأصعدة، وتصمد دولة إقليمية في المنطقة ولا تستسلم… بما يعني إمكانية تكرار التجربة مع أي طرف آخر بما في ذلك الدول التي تبدو اليوم حليفة في المنطقة، إذ لا شيء يضمن بقاء نفس الأوضاع في مصر أو الأردن أو سورية أو غيرها من الدول..
– ثانيا: نهاية أسطورة “إسرائيل” واحة الديمقراطية والأمن في الشرق الأوسط والمركز الجاذب لخبراء التكنولوجية العالية والإنتاج الصناعي المتقدم. فكل المصادر تشير إلى الهروب الجماعي للنخب العاملة في هذه القطاعات والاستقرار في دول أخرى. كتبت “الغارديان” البريطانية في 6 أكتوبر 2024 مقالا بعنوان: عام من الحرب يُعجِّل المغادرة الصامتة للنخبة الإسرائيلية. Silent departure of Israel’s elite فما بالك اليوم بعد عامين !! وفي ذات العدد نشرت تصريحا للإسرائيلي أهارون تشيخاتوفير الحائز على نوبل في الكيمياء سنة 2004 وزميله “يوجين كندل” قالا فيه: «هناك احتمال كبير بأن اسرائيل لن تكون قادرة على الوجود كدولة يهودية ذات سيادة في العقود القادمة”! بما يعني أن تغيرات عميقة باتت تحدث داخل الكيان لا تغطيها سوى الحرب الآن، وسَتتفاقم أكثر في المدى البعيد.
– ثالثا: نهاية اسطورة “إسرائيل من الفرات إلى النيل”، حيث بات العالم اليوم يتحدث عن فلسطين حرة من النهر إلى البحر نافيا وجود “إسرائيل” ذاته. وتجلى ذلك بوضوح في مظاهرات الدول الغربية التي باتت ترفع العلم الفلسطيني وفي ذهنها خارطة كل فلسطين مما يجعل الكيان اليوم مضطرا للقبول بحل الدولتين أو الخضوع لمنطق المتطرفين الرافضين لأي وجود فلسطيني ومن ثم إلى عزلة دولية لا شك فيها تنتهي به إلى الاضمحلال التدريجي على المدى البعيد…
تكفي هذه الإشارات المستقبلية الثلاث لتبين لنا أنه رغم ما يسعى إليه الكيان اليوم من تسويق للانتصار الحاسم في الحرب على غزة وادعاء ببناء شرق أوسط جديد إنما هي آخر أوهام تصطدم يوما بعد يوم بواقع تضحيات لا مثيل لها لشعب صابر ومقاومة تفعل ما تقول: النصر أو الشهادة!
الشروق الجزائرية