مقالات مختارة

بين الطفل حسن عيّاد وأحمد دحبور

عاطف ابو سيف
سيظل صوته حاضراً يذكرنا بقسوة ما خبرناه خلال حرب الإبادة
سيظل صوته حاضراً يذكرنا بقسوة ما خبرناه خلال حرب الإبادة
قبل أيام استشهد الطفل الفنان حسن عياد الذي لفت الانتباه كثيراً بإعادة غنائه لرائعة العاشقين «اشهد يا عالم علينا وع بيروت» التي كتبها الراحل الكبير أحمد دحبور ولحنها الراحل حسين نازك وسجلت حضوراً كبيراً في سجل الغناء الفلسطيني والفن المقاوم. ظهر حسن في أكثر من فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي وهو يغني للحياة، لكن الفيديو الذي لقي رواجاً كبيراً كان غناءه مع والده لكلمات دحبور والعاشقين الخالدة من خلال توظيف اللحن والكوبليه الأول الذي يقول: «اشهد يا عالم علينا وهدموا بيوت». الصورة مؤلمة والمشهد يستنزف آخر ما تبقى في أرواحنا من الحياة حيث يقف حسن بقرب والده الذي يبدأ الغناء ثم يطلب من ابنه حسن أن يكمل الأغنية وسط جمهرة كبيرة من المواطنين أغلبهم من الأطفال والفتيان.

وبنفس الإيقاع ودون أي موسيقى ينقل حسن كل المستمعين إلى قلب الوجع وهو يتحدث عن العرب الغارقين بـ"بنومة هنية"، ثم يعود في الكوبليه الثاني لنفس كلمات دحبور "واللي ما شاف في الغربال غزة تموت، اعمي بعيون أمريكية" مع استبدال بيروت بغزة وهكذا عن الغارات والقصف البحري والجوي وإغلاق المعابر والموت جوعاً والدبابات وعن البطل الذي صمد في الشجاعية، ثم في أوج التصفيق والتفاعل من المواطنين حوله يوجه الغناء لنتنياهو بغضب الفلسطيني الذي يشعر بخذلان العالم وقسوة القاتل.

لم تمت بيروت ولم تمت غزة ولن تموت، ظلتا رغم القهر والتدمير صامدتين لم ترفعا الراية.
ظلت المدينتان قادرتين على مواجهة القتل والقنابل. عانتا من الحصار ومن الخنق لكنهما ظلتا تتنفسان.

انتهى حصار بيروت وغادر ياسر عرفات لكنه لم يذهب بعيداً بل كانت عيناه تتجهان جهة الجنوب الشرقي جهة القدس فيما الباخرة تبحر به في عباب البحر.

كان يعرف الطريق وكان يعرف أنه سيصل. ومع ذلك ظلت حكاية الصمود الأسطوري في بيروت وقدرة المقاتلين والأهالي على البقاء رغم القصف من البحر والبحر والجو حكاية تستحق أن تروى.
يصعب تجاوز حكاية هذا الصمود في سرد الأوديسة الفلسطينية لما عناه ذلك من قدرة على مواجهة التحديات وعلى الاشتباك مع العدو في كل الساحات.

وفيما أدرك عرفات أنه يمكن أن يصمد لعشرات السنين ويظل في خنادق القتال دون استسلام ودون أن يرفع الراية البيضاء إلا أنه أدرك أيضاً أن المدينة تموت رويداً رويداً وأن مواصلة القتال ستعني بالضرورة هدم كل شيء، وإلى جانب ذلك فإن قدرة الناس على التحمل لن تكون كما كانت عليه.

مات أحمد دحبور بعد ذلك في رام الله بعد أن خرج من بيروت وعاش في تونس حيث عمل في دائرة الثقافة والإعلام في منظمة التحرير قبل أن يختار أن يعود لغزة المشاطئة للبحر لأن فيها ما يذّكره بحيفاه وعلى امتداد بحرها يتخيل وادي النسناس أحد أحياء المدينة حيث ولد في أربعينيات القرن الماضي.

أما الطفل حسن الذي وقف في الشوارع وسط الركام والدمار ينشد للحياة ويغني للمستقبل متحدياً صوت الزنانة ودوي الانفجارات فلم يحالفه الحظ إذ اغتالته الحرب كما اغتالت اثنين وخمسين ألفاً من المواطنين في غزة.

لم يعرف حسن حين وقف وسط الركام في حي الشجاعية يفضح جرائم العدو ويتألم من خيبة العرب والجيران وعدم قدرتهم على نصرة غزة وتركها وحدها كما تركوا بيروت، لم يكن يعرف أنه أيضاً سيستشهد بعد أيام ولن يتمكن من الوقوف على خشبة المسرح وتمجيد كل هذه الآلام كما وقفت «العاشقين» في عواصم الأرض تعيد التذكير بمجازر الاحتلال في بيروت.

لذلك جاءت أغنية العاشقين تذكاراً بكل أهوال الحرب وبكل الصعاب التي عاشتها المدينة التي خنقها الحصار وأراد أن يجهز عليها.

وعلى بساطة الكلمات وقربها من المألوف من القول إلا أنها تحفل بالبلاغة والتعابير والصور الشعرية التي يبرع شاعر بقامة أحمد دحبور في صياغتها حتى حين يتحدث إليك على المقهى أو في مكتبه في وزارة الثقافة في غزة سابقاً عن شيء عادي من تفاصيل الحياة.

سمعت من أحمد دحبور أكثر من مرة قصة الأغنية وكيف أخذ يردد مطلعها خلال جلسة له مع حسين نازك.

كان الإحباط والوجع يملآن كل شيء. وكان أبو يسار يشعر بهذا القهر فكانت كلماته صرخة موجهة للعالم مشبعة بالوجع والفجيعة والألم لكنها تحمل الكثير من تمجيد الحياة والنضال.

لم يستغرق الأمر حسين نازك كثيراً إذ إن الكلمات تحمل إيقاع لحن فلكلوري قديم، فقدم كلمات أحمد دحبور في قالب موسيقي ساحر أيضاً يحمل الوجع والكبرياء.

كانت «اشهد يا عالم» أيقونة غناء الثورة. كانت حفلات الأعراس في المخيم التي تقام في الليلة السابقة للزواج لا بد أن يتم غناء هذه الأغنية فيها في ثمانينيات القرن الماضي. صارت الأغنية جزءاً من الفلكلور الشعبي وجزءاً من نسيج الغناء الوطني.

أذكر كيف كنا نحفظها عن ظهر قلب ونرددها حتى في كل مناسبة وطنية.

إن نفس الالتزام والحضور الذي جعل طفلاً بمثل عمر حسن يرددها أيضاً وهو يرى الدمار والحرب يقتلان غزة، الطفل الذي ربما لم يكن والده قد ولد وقت كتب أحمد دحبور الكلمات ووقت وقفت العاشقين تشدو بوجع عن القتل والصمود، وربما حين جاءت العاشقين لغزة ووقفت على مسرح انطلاقة فتح في كانون الثاني من العام 2013 في ساحة السرايا لم يكن عمر حسن وقتها أكثر من عام.

لكن مثل كل فن وطني إنساني حقيقي فإن الأغنية الأشهر للعاشقين ظلت حاضرة تتوارثها الأجيال.
لن ينعم حسن بالهدوء الذي ستشهده غزة بعد أن تخمد الدبابات وتهدأ المدافع وترحل الزنانات، لكن سيظل صوته حاضراً يذكرنا بقسوة ما خبرناه خلال حرب الإبادة وبأن العدو واحد من فجر النكبة حتى اليوم وأن المعركة واحدة لم تنتهِ.

(الأيام الفلسطينية)
التعليقات (0)

خبر عاجل