فكرة
"السور الواقي" كانت حاضرة في أذهان البشر، ومعمول بها كإجراء دفاعي منذ
فجر التاريخ، وربما إلى قيام الساعة.. وكان الهدف منها
حماية أي تجمع سكاني (القبيلة
أو الدولة) من الغارات التي تشنها القبائل والدول ضد بعضها بعضا..
وقد
أشار القرآن الكريم إلى ذلك "السور الواقي" الفريد الذي شيده ذو القرنين
(هناك إشارات قرآنية قوية تدل على أنه سليمان عليه السلام)؛ لحماية أولئك القوم
الذين لا لا يكادون يفقهون قولا، من يأجوج ومأجوج المفسدين في الأرض.. وقد عرفت
البشرية، على مر العصور، الكثير من هذه الأسوار، في أماكن شتى..
ففي
أقصى الشرق، هناك سور الصين العظيم، تلك التحفة المعمارية الجبارة.. وفي وسط
العالم القديم، هناك سور القسطنطينية الذي كان يحمي الدولة البيزنطية، في الجانب
الأوروبي من مضيق البوسفور، من غارات الشرق المحتملة، ولا تزال بقاياه قائمة حتى
اليوم في قلب إسطنبول.. وفي الجنوب منه، هناك سور القاهرة الفاطمية الذي لا تزال
أجزاء منه وبعض أبوابه موجودة حتى اليوم، وقد أصبحت القاهرة القديمة بقعة لا تكاد
تُرى ضمن القاهرة الكبرى التي تمددت في الاتجاهات الأربع.. وهناك سور برلين الذي
فصل، لعقود، بين شطري ألمانيا، إبان استيلاء الشيوعيين على الشطر الشرقي منها.. وفي
جنوب أفريقيا، كانت هناك أسوار الفصل العنصري بين سكان البلاد الأصليين (السود) والمحتلين
الأوروبيين (البيض).. وأخيرا وليس آخرا، هناك أحدث أسوار "الفصل
العنصري" الذي أقامه
الاحتلال الصهيوني؛ لتفتيت ما تبقى من الأراضي
الفلسطينية المفتتة أصلا.. وهناك معلومات تم تداولها في حينه، تفيد بأن الأسمنت
والحديد الذيْن شُيِّدَ بهما هذا السور تم استيرادهما من مصر!
كانت وظيفة "الأسوار الواقية" حماية مَن خلفها مِن أي عدوان خارجي.. أما "السور العربي الواقي"، محل الحديث، فلم يُنشَأ لحماية العرب من أعدائهم، وإنما لحماية أعدائهم منهم.. فضيحة!
في كل
الأحوال، كانت وظيفة "الأسوار الواقية" حماية مَن خلفها مِن أي
عدوان
خارجي.. أما "السور العربي الواقي"، محل الحديث، فلم يُنشَأ لحماية
العرب من أعدائهم، وإنما لحماية أعدائهم منهم.. فضيحة!
هذا
السور الواقي الذي يمتد من لبنان وسوريا شمالا، إلى الأردن شرقا، إلى السعودية
جنوبا، إلى مصر غربا، أنشئ، برضى عربي كامل؛ لحماية الكيان الصهيوني، الذي كان (وقتئذ)
لا يزال تحت الإنشاء، من غضب الشعوب العربية المحتمل، واحتمال تناديها للزحف تجاه
فلسطين؛ للحيلولة دون ولادة هذه الغدة السرطانية العنصرية على الأراضي العربية
الإسلامية!
أول
لبنة في السور العربي الواقي!
بعد
أن أعمل كل من سايكس وبيكو مبضعيهما في "جثة" أو خريطة "الوطن
العربي"، وتقسيمها غنيمة باردة بين بلديهما (بريطانيا وفرنسا)، نشأ بموجب هذا
التقسيم ما تسمى "البلاد العربية" المعروفة اليوم، وبات لكل منها علم
ونشيد وطني! وتم تسويق فكرة الاستقلال للشعوب العربية، أي أن البلاد أصبحت مستقلة
ذات سيادة، وهو الأمر الذي لم يحدث، منذ فعلة سايكس وبيكو حتى الساعة، غير أن
الغالبية انطلت عليها هذه الخدعة!
في 29
أيار/ مايو 1941، ألقى وزير خارجية بريطانيا أنتونى إيدن خطابا جاء فيه: "إن
العالم العربي قد خطا خطوات عظيمة منذ التسوية [يقصد فعلة سايكس وبيكو] التي تمت
عقب الحرب العالمية الماضية [الأولى]، ويرجو كثير من مفكري العرب للشعوب العربية
درجة من درجات الوحدة أكبر مما تتمتع به الآن. وإن العرب يتطلعون لنيل تأييدنا في
مساعيهم نحو هذا الهدف، ولا ينبغي أن نغفل الرد على هذا الطلب من جانب أصدقائنا"..
شوف
يا أخي إزاي!! مستر إيدن معجب بفكرة أن تكون بين العرب درجة من الوحدة أكبر مما هي
حينئذ.. حُنيِّن أوي مستر إيدين ده.. شكرا مستر إيدن مرتين؛ مرة لإعجابك بفكرة الوحدة
بين العرب، ومرة لعدم إغفالك الرد على هذا الطلب من "أصدقائك"، أو
"عملائك".. لا فرق!
وفي
24 شباط/ فبراير 1943 صرح إيدن، في مجلس العموم البريطاني، بأن الحكومة البريطانية
"تنظر بعين العطف إلى كل حركة بين العرب ترمي إلى تحقيق وحدتهم الاقتصادية
والثقافية والسياسية".
على مدى بضع وسبعين عاما، و"السور العربي الواقي" يؤدي الغرض منه بكفاءة عالية، بصرف النظر عمن يحكم دول الطوق "المستقلة" التي تحيط بفلسطين المحتلة
بعد
عام تقريبا من خطاب إيدن، دعا رئيس الوزراء المصري مصطفى النحاس كلا من رئيس
الوزراء السوري جميل مردم بك، ورئيس الكتلة الوطنية اللبنانية بشارة الخوري؛
للتباحث معهما في القاهرة، بشأن فكرة "إقامة جامعة عربية؛ لتوثيق التعاون بين
البلدان العربية المنضمَّة لها". وكانت هذه أول مرة تثار فيها فكرة الجامعة
العربية بمثل هذا الوضوح.
إثر
ذلك، بدأت سلسلة من المشاورات الثنائية بين مصر من جانب وممثلي كل من العراق،
وسوريا، ولبنان، والمملكة العربية السعودية، والأردن، واليمن، من جانب آخر"..
وكالعادة تنوعت وتعددت وجهات النظر بشأن هذا الكيان المزمع إنشاؤه.. هل هي وحدة
إقليمية جهوية، أم كونفدرالية، أم فيدرالية؟ وهل نسميها "الاتحاد
العربي" أم "التحالف العربي" أم "
جامعة الدول العربية"؟
وفيما
بين 25 أيلول/ سبتمبر إلى 7 تشرين الأول/ أكتوبر 1944 اجتمعت لجنة تحضيرية من
ممثلين عن كل من سوريا، ولبنان، والأردن، والعراق، ومصر، واليمن، وانتهت اللجنة
إلى تسمية الكيان الجديد "جامعة الدول العربية"، وهو الاسم الذي اقترحه
الوفد المصري، وأنه تجمع للدول العربية "المستقلة"، بمعنى أنه لا يجوز
لأي دولة عربية "غير مستقلة" الانضمام إلى هذا الكيان..
بهذا
الإعلان "التاريخي"، تم وضع أول لبنة في "السور العربي
الواقي" للكيان الصهيوني، من غضب الشعوب العربية، قبل الإعلان عن وجوده، بأربع
سنوات كاملة!
منذ
ذلك التاريخ، على مدى بضع وسبعين عاما، و"السور العربي الواقي" يؤدي الغرض
منه بكفاءة عالية، بصرف النظر عمن يحكم دول الطوق "المستقلة" التي تحيط
بفلسطين المحتلة، إحاطة السوار بالمعصم!
لقد
اختلفت أنظمة دول الطوق "المستقلة" المتعاقبة، في كل شيء، إلا حماية
الكيان الصهيوني! ولكل منها دورها "المخزي" في إطالة عمر هذا الكيان
النازي، وهذا حديث آخر.
x.com/AAAzizMisr
aaaziz.com