لم تعد القوة
الناعمة
الصينية تقتصر على مبادرات البنية التحتية أو الاستثمارات الضخمة، بل
امتدت إلى تفاصيل الحياة اليومية وأنماط الاستهلاك، فبينما ظل
الشاي قرونا رمزا
للهوية الصينية، باتت
القهوة أداة جديدة توظفها بكين لتعزيز حضورها الاقتصادي
والثقافي في دول الجنوب العالمي، وتحويل الذوق الاستهلاكي المتغير إلى نفوذ سياسي
وتجاري عابر للحدود.
ونشرت صحيفة
"
سفوبودنايا بريسا" الروسية تقريرا تناولت فيه التحول الثقافي والاقتصادي
اللافت في الصين، حيث تنتقل البلاد من تقاليد الشاي العريقة إلى ما وصفه بـ "دبلوماسية
القهوة".
وترى الصحيفة أن بكين
تستغل بذكاء هذا التحول الاستهلاكي لتعزيز نفوذها في دول "الجنوب العالمي"،
مثل البرازيل والدول الأفريقية، مستفيدة من التوترات التجارية القائمة بين هذه الدول
وواشنطن، وهو ما يعتبره درساً في القوة الناعمة يجدر بروسيا تعلمه.
وأشارت الصحيفة إلى
أن القواسم المشتركة بين الصين وروسيا تتزايد، وفي مجالات قد لا تبدو واضحة للوهلة
الأولى، مثل ثقافة القهوة. فالصين هي أسرع أسواق القهوة نمواً في العالم، حيث يزداد
عدد أكواب القهوة التي يشربها الشباب الصينيون (من جيل الألفية والجيل الذي يليه) بنسبة
20 بالمئة سنوياً.
وتبين الصحيفة أنه
برغم هذا النمو فإن استهلاك الفرد في الصين لا يزال أقل من روسيا، غير أن الحكومة الصينية
تستخدم واردات القهوة لبناء صداقات مع دول الجنوب العالمي.
فنجان قهوة للنخبة
بـ 3000 روبل
وتابعت الصحيفة أن
الشباب هم المحرك الرئيسي لصناعة القهوة في كل من الصين وروسيا، لا سيما في المدن الكبرى
مثل بكين وشنغهاي وقوانغتشو؛ فلم يعد الشاي هو المشروب الأكثر شعبية في الصين (وكذلك
في روسيا بالمناسبة).
وأوضحت الصحيفة أن
المقاهي في الصين ليست مجرد أماكن لتقديم الطعام والشراب، بل يأتي الشباب إليها للتسكع
والعمل، كما هو الحال في جميع أنحاء العالم.
ونقلت الصخيفة عن إيلين
فو، مالكة أحد هذه "المقاهي المضادة"، وهي مقاهٍ لا يسمح ملاكها للرواد بالجلوس
لفترات طويلة أمام الكمبيوتر المحمول، بهدف تحرير الزوار من الأسر الرقمي، ودعوتهم
للاسترخاء، والاستمتاع بالمشروبات، قولها: "في المدن الصاخبة، من المهم الحفاظ
على توازن صحي بين العمل والحياة الشخصية".
وذكر الكاتب أن شنغهاي،
على سبيل المثال، تُلقب بـ "عاصمة القهوة" في الصين، حيث يوجد في المدينة
الكبرى ما يقرب من 10 آلاف مقهى. ويوجد فيها عدد من فروع "ستاربكس" أكثر
من أي مكان آخر في العالم. علاوة على ذلك، يعمل في شنغهاي أكثر صانعي القهوة (باريستا)
تطوراً: فقد فاز جين يانغ بينغ، مالك مقهى "كابتن جورج فليفر ميوزيوم"، مؤخراً
ببطولة كأس العالم لصناعة القهوة؛ حيث يعتبر مقهى بينغ من مقاهي النخبة، فثمن فنجان
من صنف 'بنما لا إزميرالدا' لديه سيكلف 268 يواناً، أو ما يقرب من 3000 روبل.
وأضافت الصحيفة أنه
في المتوسط، يكلف فنجان القهوة في الصين ما بين 25 و40 يواناً (270-430 روبلاً). وبفضل
هؤلاء الشباب العاديين ورجال الأعمال المتقدمين، لا تقوم الصين بتطوير ثقافة القهوة
الخاصة بها بنشاط فحسب، بل تتحول بسرعة إلى أحد المستوردين الرئيسيين للقهوة في العالم.
وعلاوة على ذلك، وبفضل القرارات الحكيمة للرئيس شي جين بينغ، اختارت الصين بذكاء التوازن
بين الاقتصاد والسياسة.
ستاربكس تتحسر و"لوكين"
تتوسع
على خلفية تصاعد التوترات
التجارية بين البرازيل والولايات المتحدة، وفرض الأميركيين رسوماً جمركية بنسبة 50
بالمئة على القهوة البرازيلية، قام شي جين بينغ بخطوة إستراتيجية: سمحت الصين لما يقرب
من 200 شركة برازيلية بتصدير القهوة إلى سوقها المحلية، كما يوضح التقرير.
ونوه الكاتب إلى أن
حجم الشهية الصينية للقهوة يتجلى في الصفقة الأخيرة التي بلغت قيمتها 2.5 مليار دولار،
والتي تم توقيعها بين أكبر سلسلة مقاهي صينية "لوكين كوفي" (التي تمتلك بالفعل
أكثر من 20 ألف فرع) ووكالة التصدير الحكومية البرازيلية.
وبموجب هذه الصفقة،
ستحصل الصين على 240 ألف طن من حبوب البن في الفترة حتى عام 2029.
وترى الصحيفة أن هذه
الصفقة ستؤدي، كما هو متوقع، إلى زيادة كبيرة في إمدادات القهوة البرازيلية إلى الصين.
فالمصدرون البرازيليون، الذين وجدوا أنفسهم تحت ضغط الرسوم الجمركية الأميركية، حصلوا
على سوق استهلاكية ضخمة. وهكذا، وفق الصحيفة، ضربت الصين ثلاثة عصافير بحجر واحد: اكتسبت
شريكاً تجارياً موثوقاً به في شخص البرازيل، وعززت أمنها الغذائي، ونوعت إمداداتها.
القهوة الأفريقية
وأكدت الصحيفة أن
"دبلوماسية القهوة" الصينية تعمل بنشاط أيضاً في أفريقيا. فقد فرضت الصين
تعريفات صفرية على البضائع القادمة من 53 دولة أفريقية، بحيث سيتمكن الشباب الصينيون
الآن من الاستمتاع ليس فقط بالقهوة البرازيلية، ولكن أيضاً بالقهوة الإثيوبية والأوغندية.
وكل ذلك دون أن يدركوا حتى أنهم بفضل ذلك يعززون السيادة الوطنية.
ونقلت الصحيفة عن الاقتصادي
علي خان ساتشو توضيحه لهذا النهج قائلاً: "تستخدم الصين ببراعة حالة عدم اليقين
المرتبطة بالتعريفات الجمركية الأميركية. وقد طبقت هذه الاستراتيجية بنجاح كبير في
قطاعات أخرى".
واختتمت الصحيفة التقرير
بالقول إن هذه هي "دبلوماسية القهوة'، حيث تكون الرهانات هي العلاقات بين الدول
ومليارات الدولارات من الاستثمارات.