هناك ما يشبه الصمت المطبق حول قضية المنهج
في البحث العلمي في حقل
الدراسات الإسلامية، فمع وفرة الجهود العلمية التي تقارب
مختلف فروع العلوم الشرعية، يسود هناك اضطراب كبير في تمثل مفهوم المنهج المستصحب
في الدراسة، وجدواه الإجرائية والبحثية، وسؤال التناسب بينه وبين الحقل المدروس،
وإمكان الإفادة في سياق ما يعرف بـ"التكامل المعرفي"، من
مناهج العلوم
الاجتماعية، وتوظيفها في دراسة العلوم الشرعية.
لقد ساد نوع من الاعتقاد بأن المنهج يقتصر
على ترتيب خطوات البحث، ومعرفة كيفية كتابة البحث، ومشترطات كل عنصر فيه، سواء
تعلق الأمر بملخصه، أو بمقدمته، أو بالدراسات السابقة، أو بعناصر البحث ومكوناته
التي تضطلع بمهمة المناقشة أو بخلاصاته، أو بمنهجية التوثيق والاقتباس والتعامل مع
النصوص والنقول المختلفة، أو بكيفية وضع السؤال البحثي ونقله إلى فروض علمية
للاختبار.
والحال، أن هذه الشرائط العلمية التي تخص
خطوات وشروط كتابة البحث، إنما هي مجرد تقنيات عامة يتم التوافق حولها، وأحيانا
يقع الاختلاف حولها بحسب معايير كل جامعة أو مجلة بحثية، لخلق قاعدة تفاهمات
علمية، يتم التواضع عليها لخلق الحد المعقول من الكتابة العلمية والانضباط
لصرامتها. في حين، تبقى قضية المنهج خارج الاعتبار، حتى يظن الباحث أنه بمجرد
الاستجابة للشرائط التقنية، قد التزم أصول المنهج ومفرداته.
والتقدير أن هذا الظن الخاطئ يعود إلى عدم
استيعاب مفهوم المنهج ودوره في ترشيد خطوات البحث، وقيادتها إلى النتائج المرجوة،
ولعدم فتح نافذة واسعة للتعرف على المناهج، ليس فقط في حقل الدراسات الشرعية، بل
في مختلف حقول المعرفة الإنسانية والاجتماعية.
ساد نوع من الاعتقاد بأن المنهج يقتصر على ترتيب خطوات البحث، ومعرفة كيفية كتابة البحث، ومشترطات كل عنصر فيه، سواء تعلق الأمر بملخصه، أو بمقدمته، أو بالدراسات السابقة، أو بعناصر البحث ومكوناته التي تضطلع بمهمة المناقشة أو بخلاصاته، أو بمنهجية التوثيق والاقتباس والتعامل مع النصوص والنقول المختلفة، أو بكيفية وضع السؤال البحثي ونقله إلى فروض علمية للاختبار.
وأسوأ من هذا الظن الخاطئ، ظن آخر موغل في
سوء التقدير، يعتبر أن للعلوم الشرعية خصوصيتها، وأن المناهج التي انبثقت من
السياق الثقافي الغربي، أو من حقل العلوم الاجتماعية، لا تصلح أن تستثمر في
الدراسات الإسلامية، وأن خصوصية الدراسات الإسلامية بوصفها تنبثق من نصوص الوحي،
وتدور في فلكها، تجعل استخدام مناهج الدراسات الاجتماعية، غير ذات جدوى بسبب أنها
تنقل القدسي إلى ثقافي، والديني إلى زمني، وتتذرع في ذلك بحجة الدراسات التي انتهت
إلى تاريخية الوحي، ومن ثمة بشرية النصوص الدينية.
والحقيقة، أن هذه الحجة لها قدر من الوجاهة،
لكن صفة التعميم فيها، وإغفال أهمية الدراسات التي أفادت من هذه المناهج، وقدمت
خدمات مهمة لقدسية الوحي، يجعل منها مجرد باب حديدي وضع أصلا لحماية الطابع
التقليدي للدراسات الإسلامية، وسد الطريق أمام إمكان التقائها بالعلوم الاجتماعية
وتكاملها معها، وإعادة تاريخ تلاقحها الثقافي كما كان في سابق التجربة.
يسعى هذا المقال إلى أن يثير الاهتمام إلى
أزمة المناهج في الدراسات الإسلامية، وعسر توطينها في كثير من حقوله، والانفتاح
الخجول عليها، إلى الدرجة التي أضحى الإنتاج العلمي في العلوم الشرعية مفتقدا إلى
الجدية المطلوبة في البحث العلمي، والصرامة المنهجية المطلوبة في المعايير الدولية.
سؤال المنهج في الدراسات الإسلامية:
النوستالجيا الكابحة
لا شك أن العلوم الشرعية تكونت على قاعدة من
المنهج، كما استقر في جهود العلماء المؤسسين، حتى استقر عند كثير من الباحثين أن
علماء المسلمين وضعوا مناهج نقدية دقيقة في علم الحديث والأصول، وأسسوا علم الكلام
على القياس الشاهد على الغائب، وبنوا الخلاف العالي في الفقه على منهجية مرتبة
الخطوات، وكان لهم إسهام مهم في نقد الفلسفة اليونانية، ونقض المنطق الأرسطي،
وحققوا تراكمات منهجية مطردة في كل حقل من حقول المعرفة الشرعية.
ففي حقل علم الأصول، ارتسمت مناهج عديدة،
منها منهج المتكلمين المنطلق من الأصول إلى الفروع، ومنهج الفقهاء الأحناف الذين
يخرجون الأصول من الفروع، ومنهج الجمع بينهما، ومنهج أهل الظاهر، ومنهج أهل
المقاصد كما أسس له الإمام الشاطبي في القرن الثامن الهجري.
وفي علم الحديث، وضعت قواعد وأسس لقبول
الحديث ورده، بنيت على العلم بالرجال، تعديلا وتجريحا، وطرق التحمل والأداء،
ومعرفة مصطلح الحديث، وقواعد التعديل والتجريح، ومعرفة أمهات كتب الحديث، ونقد
الحديث، ومعرفة المؤتلف والمختلف والمشكل من الحديث وغير ذلك ونقد المتن وعلم
العلل.
وفي الفقه، ارتسمت خطوات منهجية، تنطلق من
توثيق النص، وفك غريبه، ومعرفة طرقه المختلفة، ضبط المسألة الفقهية وتفريعها، وذكر
الخلاف حولها، وبسط أدلة كل فريق، والتنويع بين الأدلة الإنشائية والحجاجية، قبل
الأيلولة إلى الجميع والترجيح.
هذه المناهج التي تأسست وتطورت إلى حدود
القرن الخامس الهجري، ثم ظهرت بعدها طفرات فردية لم يكن السياق الثقافي يبررها، أو
ربما جاءت متجاوزة لزمانها، ظلت لمدة من
الزمن غير متحركة، وزاد من سكونها أن أغلب
المؤلفات التي ظهرت بعد هذه الفترة انصب
جهدها على تأمين ما تحصل من العلم وحفظه في شكل شروح ومختصرات وحواشي ومنظومات،
حتى إن كتبا هامشية في بعض الحقول المعرفية الشرعية نالت حظها من التعميم أكثر من
كتب أخرى مركزية، كما هو الشأن بالنشبة لـ"جمع الجوامع" في الأصول قياسا
إلى كتب قبلها مرجعية للجويني والغزالي والرازي والآمدي على حد ما ذهب إليه الشيخ
عبدالله دراز في تقديمه لكتاب الموفقات، في حين لم تنل كتب أخرى الاهتمام اللازم
مثل كتاب "الموافقات" للشاطبي الذي حاول الشيخ دراز أن يبرر عدم انتشاره
لقرون بجدة العلم ونسقية المؤلف في الكتابة وصعوبة استيعاب ذلك بالنسبة للعقل
المسلم وقتها.
هذا الوضع الذي كان موسوما بتأمين العلم،
دون اعتبار للمركزي من المصادر العلمية من الهامشي، ودون اهتمام بالجهود التي
أحدثت طفرات مهمة في المجال المنهجي، بقيت كثير من لوازمه المحافظة،
مرفوقة هذه المرة، في سياق حمل شعار
النهضة الإسلامية، بنوستالجيا وردية تتعلق بتفرد علماء المسلمين في إنتاج مادة
المنهج، وإفادة الغرب من ذلك، وأن الأمر
لا يخص فقط المنهج الاستدلالي، وإنما يخص أيضا المنهج التجريبي، حتى صار ما أنتجه الدكتور علي سامي النشار في كتابه
"مناهج التفكير عند مفكري الإسلام" جزءا من الخلفية الفكرية والمعرفية
التي تؤطر الباحثين في فترة زمنية طويلة، وحجابا يحول دون إقامة جسور للتكامل
المعرفي مع المناهج الحديثة التي تأسست مع فورة تطور العلوم الاجتماعية وتعدد
حقولها المعرفية.
فلم يعد طبقا لهذه النوستالجيا مفيدا دراسة
علم الأصول إلا بما قرره العلماء الأوائل المؤسسون له أو المطورون لأدواته، وتقرر
بشكل ضمني من خلال إثبات درجة دقة المنهج في علوم الحديث عند المحدثين، عدم الحاجة
للإفادة من منهج آخر في دراسة هذا الحقل المعرفي، وزاد الأمر تعقيدا مع الاشتباك
مع إنتاجات المستشرقين المنتمين للمدرسة الكولونيالية، الذين وضعوا كل بيهم
المعرفي في سلة التشكيك في القرآن (مارجليوث) أو الحديث (جولدزيهر) أو السرة
النبوية أو الحضارة الإسلامية (أرنست رينان)، هذا مع ملاحظة بعض الباحثين (عبد
العظيم الديب) كيف اتجه المستشرقون بكثافة بحثية غير مفهومة إلى علم التصوف وعلم
الكلام والفلسفة، وكيف حاول البعض منهم أن يركز على أطروحة سيادة المنهج الجدلي
عند علماء الكلام، واتهموهم بخلو إنتاجاتهم من أي وجه من وجوه البحث في الإلهيات كما هو الشأن في اللاهوت المسيحي أو
اليهودي.
وهكذا اجتمع في ذهن الباحثين ثالوث صنع
الموقف من قضية المنهج، الأول أن علماء
المسلمين برعوا في المنهج ولم يتركوا شيئا إلا دققوه بحيث لم تعد الحاجة إلا إلى
استلهام ما قرروه، والثاني، أن مناهج
الغرب إنما تقود إلى إنكار الوحي وإثبات تاريخية الإسلام على شاكلة ما قام به
المستشرقون في حقول معرفية كثيرة، والثالث، أن الإفادة من مناهج الغرب، يقود إلى
تقرير مركزيتهم المعرفية، والتقليل من الجهد المنهجي الذي أسسه العلماء المسلمون،
وأن الطريق الأفضل للحفاظ على أصالة
الدراسات الإسلامية وهويتها وشرفها بوصفها تدور حول نصوص الوحي، أن يتم تحريرها من
مناهج الغرب، والحفاظ على مناهج المسلمين الأوائل، وجعلها موضوعا للبحث المقارن، ليستغنى بها عن غيرها.
أسلمة المعرفة والتكامل المعرفي.. في بناء
جسر إلى العلوم الاجتماعية
للباحث أن ينقب عن حجم الإقبال المحدود على
التأليف في مناهج البحث في الدراسات الإسلامية، وكيف هي على ندرتها، تصرف الجهد
إلى قضايا التوثيق والتحقيق وترتيب خطوات البحث والانشغال بالقضايا التقنية
المرتبطة بمشمولات كل فقرة أو مكون من مكونات البحث، وتخص القلة القليلة منها بعض
المناهج بالتعريف، وبيان وجه الاستخدام في العلوم الشرعية مع ذكر بعض النماذج في
ذلك.
سنقرأ مع الدكتور فارق حمادة في "منهج
البحث في الدراسات الإسلامية تأليفا وتحقيقا" اهتمام بخطوات البحث العلمي، من
حيث المضمون والشكل، وخطة البحث وتقسيم فقراته والشروط التقنية اللازم احترامها،
فضلا عن الاهتمام بخطوات التحقيق وبعث التراث، ونقرأ عند محمد دسوقي تفريعا
تقليديا لمناهج البحث، مع الاحتفاظ بالرؤية التقليدية في دراسة السنة والأصول
والفقه وعلم الكلام دون أدنى انفتاح على إمكانية استثمار مناهج أخرى في هذه الحقول
المعرفية.
تمثل تجربة "أسلمة المعرفة" أو تجربة "التكامل المعرفي" التي لا تزال سارية إلى اليوم، محطة مهمة لتقييم أثرها في نقل قضية المنهجية إلى صلب الاهتمام داخل العلوم الشرعية، ودراسة الأسباب التي منعت اطراد تأثيرها، حتى حصلت النكسة المعرفية والمنهاجية، وصارت الدراسات الإسلامية في الأغلب العام، منشدة فقط إلى الشرائط التقنية والأسلوبية والتوثيقية، من غير أن يتعدى ذلك إلى تبرير الجدوى من المنهج في تقديم وتطوير العلم الشرعي، وتحقيق التراكم المعرفي والنظري والمنهجي فيه.
ونلاحظ مع الدكتور فريد الأنصاري في
"أبجديات منهج البحث في العلوم الشرعية" تقدما نسبيا يحصر المناهج
الممكنة استخدامها في العلوم الشرعية في أربعة مناهج فقط (وصفي، وتوثيقي، وحوراي،
وتحليلي). ونقرأ خطوة أخرى تتقدم قليلا مع " مناهج العلوم الإسلامية المناهج
العامة وتطبيقاتها في العلوم الإسلامية" تمزج بين المنحى التقليدي ومزيد من
الانفتاح على مناهج العلوم الاجتماعية، بطرح إمكان الإفادة من المنهج الوصفي
والاستقرائي، والتاريخي، والمقارن، والتكاملي والجدلي، مع بيان وجه استخدامها في
بعض العلوم الإسلامية، لكن هذه الجهود على أهميتها، مع تفاوت في ورودها في سياق
الزمن، تجعل من خصوصية الدراسات الشرعية مبدأ لسد الباب على مناهج البحث في العلوم الاجتماعية أو على الأقل للانتقاء منها ما يصلح للاستخدام، مع
تقدم نسبي في الانفتاح على أنواع من هذه المناهج، وتصر على أن لا تفصل بين الجوانب التقنية الواجب احترامها
في كل بحث، وبين قضايا المنهج، كما ولو كان الأمران شيئا متطابقا، حتى يصير بالإمكان الجواب عن حرج غياب المنهج في الدراسات الإسلامية بحجة الالتزام بمشترطات البحث
المنهجية.
والحقيقة أن الفاصل
الزمني بين ظهور هذه الكتب المختلفة التي عنيت بقضية منهج البحث في العلوم
الشرعية، يطرح سؤال التطور ودواعي ذلك، ودور بعض المدارس الفكرية في تفسير هذه
التحولات.
لا نزعم هنا أننا نقوم بتأريخ علمي دقيق
لتطور البحث في مناهج البحث في العلوم الشرعية، لكن نقدر بأن ظهور مدرسة
"إسلامية المعرفة"، ثم تطورها لاحقا إلى مدرسة التكامل المعرفي كان لها
دور كبير في الدفع بقضية المنهج في العلوم الشرعية إلى آفاق واعدة، والسبب في ذلك
يعود إلى سياقات ثقافية فرضت هذا التحول، وإلى تشكل جيل من الباحثين المسلمين
الذين تابعوا دراساتهم الجامعية والأكاديمية في بلاد الغرب منذ بداية السبعينيات، وفرض عليهم ذلك
الاستجابة للبيئة البحثية وقواعدها بالانفتاح على العلوم الاجتماعية والمناهج المختلفة المستخدمة فيها، إذ
اختار كثير منهم قضايا بحثية لها علاقة بالتراث الإسلامي، أو لها علاقة بالتأصيل العلمي لبضع العلوم الإسلامية، أو لتطبيق بعض المناهج في العلوم الإسلامية، أو للبحث عن إمكان تكييفها أو تبيئتها، أو توظيف النجاعة المنهاجية الغربية في التبشير في بعض مقتضيات الحضارة
الإسلامية والتراث العلمي الإسلامي أو بيان فضل التأسيس لبعض العلماء المسلمين في
حقول معرفية مختلفة.
سنلاحظ مع إسماعيل الفاروقي في دراساته في
نقد الأديان استخدام المنهج الظارهاتي (الفينومينولوجي) في الدراسة النقدية
المقارنة للأديان وبلورة رؤية فلسفية جد متقدمة لموضوع التوحيد وأيضا كتابه
"الصياغة الإسلامية لعلم الاجتماع"، ونتابع مع الدكتور عبد الحميد أبو
سليمان استخدام مناهج العلوم السياسية في دراسة العلاقات الدولية، وما أعقبه ذلك من دراسات حول العلاقات الدولية في الإسلام
في حالتي الحرب والسلم، ونرصد كتابات مالك بدري (التفكر من المشاهدة إلى الشهود،
وأزمة علماء النفس المسلمين، والتكيف الثقافي وأسلمة علم النفس، فضلا عن كتاب حكمة
الإسلام في تحريم الخمر) وكيف استثمر مناهج علم النفس المختلفة، وما أعب دراسته من
جهود تأصيلية تدرس علم النفس في التراث الإسلامي وتقدم بيبلوغارفيا مهمة للدراسات
التأصيلية لعلم النفس الإسلامي، ونسجل في موضوع التأصيل لعلم التاريخ كتاب "المسلمون
وكتابة التاريخ: دراسة في التأصيل الإسلامي لعلم التاريخ" وفي الأنثروبولوجيا:
"الأنثروبولوجيا: نحو علم الإنسان الإسلامي عريف ونظريات واتجاهات" ،
وفي مجال العلوم الاجتماعية والسياسية عددا من الكتب التأصيلية مثل "نظريات
التنمية السياسية المعاصرة دراسة نقدية مقارنة في ضوء المنظور الحضاري
الإسلامي" و"النظريات السياسية" و" منهج البحث
الاجتماعي" و "فلسفة التربية"، هذا فضلا عن تكثيف دروات معرفية حول
مناهج العلوم الاجتماعية، والمنهجية الإسلامية.
كان من المفترض أن يكون لهذا الجهد النظري
والمنهجي آثاره الظاهرة على تحويل النظر إلى أهمية المنهج في العلوم الشرعية، وفي
تقليص المخاوف من إمكانية استخدام مناهج العلوم الاجتماعية، بعد الوعي بسؤال
التحيز والخلفية المعرفية والثقافية الناظمة، لكن شعار "أسلمة العلوم
والمعرفة"، استخدم كسلاح إيديولوجي، ضد هذا الجهد النظري، وحال دون أن تتحول
هذه المدرسة إلى رهان فكري ومنهجي يضمن قدرا من الاطراد في التأثير على الوسط
الأكاديمي.
وعلى الرغم من جهود المعهد العالمي للفكر
الإسلامي في تجاوز الخلفيات الإيديولوجية الثاوية وراء شعار "أسلمة
المعرفة"، ورغبته في تقليص التداعيات التي تم افتعالها بين الحقول المعرفية
المختلفة داخل الوسط الاجتماعي، بعد أن اتهمت هذه المدرسة بمحاولة الهيمنة
المعرفية على الأوساط الجامعية، ومحاولة تجريد العلوم الأخرى من خصوصياتها، وفرض
هوية أخرى عليها. عدل المعهد عن طرحه السابق، وتبنى مشروعا بديلا هو "منهجية
التكامل المعرفي"، لم ينتج نفس الزخم السابق، ولم يجد سندا كبيرا من لدن
الأوساط الأكاديمية، مما جعل الدراسات الإسلامية، تعود لسابق عهدها، غير مستفيدة
إلا في الحدود الدنيا، من آثار مدرسة أسلمة المعرفة او مدرسة التكامل المعرفي، هذا
مع الأخذ بالاعتبار بأن تطور الاهتمام باللغات في المناهج التعليمية الجامعة،
وخضوع الارتقاء الأكاديمي لمعيار النشر في المجلات الدولية، كان يفترض منه أن يوسع
عملية الاطلاع على الدراسات الأجنبية، واستثمارها في البحث في العلوم الشرعية
وتطوير مناهج الدراسة في هذه الحقول تبعا لذلك، فحصل شيء من ذلك، لكن بقي في
الحدود الفردية ولم يصل مرحلة الـتأثير على سير المؤسسة الجامعية واتجاه البحث العلمي بها.
البحث العلمي في العلوم الشرعية من غير
مناهج
لا نريد أن نغفل أدوارا أخرى وجهود باحثين
نبهوا على أهمية المنهجية في البحث في العلوم الشرعية، وضرورة أن يتم تجاوز المنطق
التقليدي في النظر إلى المشترطات التقنية في البحث، أو في الحد الأقصى الاستخدام
الكثيف لمفردات المنهج الوصفي أو التوثيقي في حقل العلوم الشرعية، لكن المصير الذي
انتهى إليه البحث الجامعي في كثير من المؤسسات الجامعية، بسبب من هيمنة الذكاء
الاصطناعي، ويسر الحصول على المعلومة المعرفية، وضعف أجهزة الرقابة العلمية في
المؤسسات الجامعية أن اصبح التصريح بالمنهج ضرورة شكلية، يتم الإعلان عنها في مقدمة
الأطروحة دون الالتزام بها، أو حتى بيان المواضع التي تم استخدام المنهج فيها في
حال تعدد المناهج.
فكثير من الأطروحات لا تعلن أصلا عن المنهج
المعتمد، ولا تشتغل بسؤال تبرير الاختيار المنهجي ومدى تناسبه مع الحقل المدروس،
وبعضها يعلن المنهج بوصفة مشترطا في كتابة مقدمة الأطروحة دون أن يتعداها لتأطير
البحث بجميع مكوناته وفقراته، في حين لا يستوعب كثير من الباحثين أهمية المناهج
وخصوصية أكل منهج على حدة، ومدى إمكان تطبيقه في هذا الحقل أو ذاك، وقليل من
الباحثين من يتملك الاقتدار المعرفي في مجال المناهج ومكوناتها وخصوصيتها ومجال
استخدامها وأهم الانتقادات التي طالتها، وكيفية تجاوزها عند الاستعمال. هذا دون أن
نتحدث عن خطوة جد متقدمة تتعلق باستخدام مناهج العلوم الاجتماعية غير المألوفة في
حقل الدراسات الإسلامية، وتبرير الجدوى من ذلك، وبيان فائدة الاستخدام والنتائج
التي تحصلت من وراء ذلك.
خاتمة
تمثل تجربة "أسلمة المعرفة" أو
تجربة "التكامل المعرفي" التي لا تزال سارية إلى اليوم، محطة مهمة
لتقييم أثرها في نقل قضية المنهجية إلى صلب الاهتمام داخل العلوم الشرعية، ودراسة
الأسباب التي منعت اطراد تأثيرها، حتى حصلت النكسة المعرفية والمنهاجية، وصارت
الدراسات الإسلامية في الأغلب العام، منشدة فقط إلى الشرائط التقنية والأسلوبية
والتوثيقية، من غير أن يتعدى ذلك إلى تبرير الجدوى من المنهج في تقديم وتطوير
العلم الشرعي، وتحقيق التراكم المعرفي والنظري والمنهجي فيه.