دعت نائبة رئيس الجمعية الفلسطينية
السلفادورية، كارلا حنانيا، شعوب أمريكا اللاتينية إلى مواصلة الضغط على حكوماتها حتى لا تتحول إلى شركاء في
الإبادة الجارية في
غزة، مؤكدة أن "الموقف الشعبي بات اليوم القوة الأكبر القادرة على التأثير وكسر حالة الصمت الرسمي".
ولفتت، في مقابلة خاصة مع "عربي21"، إلى أن "ما يجري في غزة لم يعد شأنا فلسطينيا، بل تحوّل إلى اختبار أخلاقي يواجه العالم بأسره"، مضيفة: "البشرية اليوم أمام لحظة حاسمة لا يمكن فيها الاحتماء باللامبالاة أو الادعاء بالجهل".
وشدّدت حنانيا، التي شغلت سابقا منصب وزيرة التعليم في السلفادور، على أن "ما تشهده غزة يُمثل إخفاقا للضمير الإنساني في أبشع صوره، وأن ما نراه هو تجسيد فاضح للاستعمار المقنّع بالتطرف الديني والمصالح الاقتصادية، وصولا إلى مستوى الإبادة الجماعية المذاعة على الهواء مباشرة".
وأكدت أن "أكبر تفاعل دولي حقيقي مع الكارثة الإنسانية في غزة جاء من الشعوب، لا من الحكومات؛ إذ لجأت أنظمة كثيرة حول العالم إلى قمع التضامن الشعبي بعنف بالغ، بينما رفض الناس أن يكونوا شركاء في سرقة وطن أو متواطئين في محو هوية وتاريخ وأرض بأكملها"، وقالت: "هذه الموجة الشعبية العارمة تؤكد أن الإنسانية لم تمت، وأن الأمل ما زال قائما، رغم أن القوة لا تزال في يد مَن لا يؤمنون بالسلام".
وأوضحت حنانيا أن "الرفض الفلسطيني للقرار الأمريكي الأخير الصادر عن مجلس الأمن يأتي امتدادا لتجربة طويلة ومريرة مع القوى الأجنبية التي هيمنت على فلسطين منذ العهد العثماني ثم الانتداب البريطاني"، مؤكدة أن "الفلسطينيين فقدوا الثقة منذ عقود بأي حلول تُفرض عليهم من الخارج، لأن جذور المأساة الحالية تعود إلى تدخلات دولية صاغت مصير الشعب الفلسطيني وفق مصالح غير فلسطينية".
وأعلنت فصائل فلسطينية مختلفة، قبل أيام، رفضها مشروع القرار الأمريكي الذي اعتمده مجلس الأمن الدولي بشأن مستقبل قطاع غزة، معتبرة أنه يكرّس "الوصاية الدولية" ويمهّد لفرض ترتيبات ميدانية خارج الإرادة الوطنية.
ومساء الاثنين قبل الماضي، اعتمد مجلس الأمن الدولي بالأغلبية المشروع الأمريكي بشأن إنهاء الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، حيث صوّت 13 عضوا بالمجلس لصالحه، بينما امتنعت روسيا والصين عن التصويت.
ورحب القرار الأممي، الذي يحمل رقم 2803، بخطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المكونة من 20 بندا لإنهاء النزاع في غزة والصادرة في 29 أيلول/ سبتمبر 2025، وأذن بإنشاء قوة دولية مؤقتة حتى نهاية 2027.
ويأتي القرار الأمريكي تمهيدا لمرحلة ثانية من اتفاق وقف إطلاق النار بغزة الساري منذ 10 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، تتضمن وفق خطة ترامب، حكما انتقاليا مؤقتا تديره لجنة فلسطينية مستقلة بإشراف هيئة دولية يترأسها ترامب بمشاركة قادة آخرين يعلن عنهم لاحقا، بينهم توني بلير.
وأدناه نص المقابلة الخاصة مع "عربي21":
من موقعكم كقيادية فلسطينية في السلفادور، كيف تقيّمون المشهد الإنساني الراهن في غزة بعد أشهر طويلة من الحرب المستمرة؟
إن قضية غزة ومعاناتها لم تعد شأنا فلسطينيا فحسب، بل أصبحت قضية العالم بأسره؛ ففي هذا الزمن، لم يعد لأحد عذر في أن يجهل ما يحدث في الجانب الآخر من الكوكب؛ إما أن تنضم إلى معسكر اللامبالين، أو أن تختار التضامن. ولحسن الحظ، يزداد عدد الأشخاص الواعين والمتضامنين يوما بعد يوم.
ما يحدث في غزة هو إخفاق للإنسانية جمعاء؛ فهناك تُختبر قيم أساسية، من دونها لا يمكن للمرء أن يدّعي انتماءه للجنس البشري، يصبح شيئا آخر لا نملك اسما له بعد، وربما يظهر قريبا.
لم يعد بإمكان البشر أن يعيشوا في جزر معزولة، يظن أحدهم أن رفاهيته تكفيه ولو كان جاره يُذبح. عاجلا أو آجلا، ستصله تلك القسوة مهما حاول تجاهلها.
ما نشاهده في غزة هو أبشع وأقسى تجليات الاستعمار، المغلّف بتطرف ديني ومدفوع بمصالح اقتصادية كبرى. وما هو أخطر من ذلك كله أنه إبادة جماعية مُذاعة على الهواء مباشرة.
ما موقفكم من مشروع القرار الأمريكي الأخير الذي تبناه مجلس الأمن بشأن غزة ورفضته الفصائل الفلسطينية؟
خضعت فلسطين لإدارة قوى أجنبية منذ الحقبة العثمانية، وأي شعب يطمح إلى السيادة، يحتاج أولا إلى حقه في تقرير المصير. استمرار الوصفة ذاتها منذ قرون لا يجلب إلا تكرار المآسي. لطالما كانت هناك قوى دولية في فلسطين تعمل لخدمة مصالح غير فلسطينية، ولذلك فمن الطبيعي أن يشكّك الفلسطينيون في مثل هذه الحلول.
يريد الفلسطينيون العيش بسلام، على أرضهم، وتحت إدارة وطنية تخصّهم. لقد كانت تدخلات القوى الأجنبية واتخاذها قرارات تخص الفلسطينيين هي الجذر الأساسي لهذه الكارثة.
برأيكم، ما العوامل الأساسية التي دفعت الفصائل الفلسطينية لرفض القرار الأمريكي؟ وكيف سيؤثر ذلك على مسار القضية الفلسطينية؟
كما ذكرت آنفا، فإن أحد أهم أسباب العنف المستمر، وسرقة الأراضي، وتهجير السكان، والنفي والحروب، هو خضوع فلسطين لقوى أجنبية لا تُمثل مصالح الفلسطينيين.
أوضح الأمثلة على ذلك هو الانتداب البريطاني، الذي يتحمّل مسؤولية تاريخية هائلة عمّا يجري اليوم؛ فقد ميّز البريطانيون خلال انتدابهم بين اليهود والفلسطينيين بشكل صارخ، مانحين الأولوية للأوائل، والمنطق واحد منذ 60 عاما وحتى اليوم: المنطق الاستعماري.
العالم بأسره يخسر مع حرب غزة، ليس أخلاقيا فحسب - رغم أن الأخلاق تراجعت قيمتها في هذا العصر - بل سياسيا وجيوسياسيا أيضا.
في ضوء تقارير الأمم المتحدة التي تتحدث عن كارثة إنسانية واسعة في غزة، كيف تقيّمون استجابة المجتمع الدولي؟ وهل تعتبرونها كافية؟
إن الاستجابة للكوارث الإنسانية في غزة جاءت أساسا من الشعوب، من الرأي العام العالمي، في حين لجأت حكومات كثيرة إلى قمع وحشي للمظاهرات.
الناس لا يريدون أن يُنظر إليهم كمتواطئين في الفظائع التي نشاهدها في غزة والضفة. ما يجري هو سرقة وطن، سرقة هوية وتاريخ وأرض، وهو أمر لا يُتصوّر في القرن الحادي والعشرين.
ردود فعل الشعوب تؤكد أن هناك بقية من الإنسانية، وأن الأمل لم يمت، لكن السلطة ما زالت بيد أولئك الذين لا يؤمنون بالسلام.
كيف تصفون الموقف الرسمي لحكومة السلفادور من التطورات في غزة؟ وهل هو متقدم مقارنة بمواقف دول أمريكا اللاتينية؟
بصفتنا الجمعية الفلسطينية السلفادورية، نحرص على عدم إصدار مواقف أو التدخل في شؤون الحكومة، لأننا نؤمن بأن الوعي لا يُصنع بالمواجهة، بل بالمعلومة والحوار. الأمور الجلية أمام الجميع ستقود كل شخص إلى اتخاذ موقفه إذا كان يعلم ما يحدث في فلسطين.
ما الجهود التي تبذلها الجمعية الفلسطينية في السلفادور للتواصل مع الحكومة والبرلمان والإعلام بشأن أوضاع غزة؟
تقوم الجمعية بأنشطة متنوعة تهدف إلى التوعية، والتعليم، والتعريف بالتاريخ والثقافة الفلسطينية، وتشمل هذه الأنشطة فعاليات ثقافية وإعلامية تزيد الوعي بما يعيشه الفلسطينيون في غزة والضفة.
ومن أبرز مشاريع الجمعية إنشاء المتحف الفلسطيني في السلفادور، وهو الأول من نوعه في أمريكا اللاتينية، ويهدف المتحف إلى نشر الثقافة الفلسطينية، خصوصا بين الشباب، وتعزيز الهوية الفلسطينية التي يُراد طمسها اليوم. في هذه المرحلة، يصبح الحفاظ على تاريخ الشعب الفلسطيني ضرورة قصوى؛ ففلسطين لم تكن يوما "أرضا بلا شعب".
بصفتكم مسؤولة حكومية سابقة، كيف يمكن تحفيز المؤسسات الرسمية على تبنّي سياسات تعليمية وإعلامية تُعرّف الأجيال بتاريخ فلسطين وحقوق شعبها؟
إن إنشاء المتحف الفلسطيني في السلفادور يلعب هذا الدور بالفعل؛ فقد أقمنا شراكات مع متاحف أخرى، وتنظم المدارس الحكومية زيارات ميدانية للمتحف، مما يعزز فهم التاريخ والواقع الحالي، سواء في أوساط السلفادوريين أو ذوي الأصول الفلسطينية.
وقد كانت الاستجابة الشعبية لافتة؛ فعدد المهتمين في تزايد مستمر، وكثيرون يتأثرون بعمق عندما يكتشفون الحقيقة.
إلى أي مدى تؤثر الجالية الفلسطينية المؤثرة في السلفادور على الموقف الرسمي للبلاد من غزة؟ وهل هناك نتائج ملموسة؟
كما في كل مكان، هناك فلسطينيون في السلفادور ملتزمون ومهتمون، وآخرون غير ذلك. جزء من الجالية ذات النفوذ السياسي والاقتصادي يتجه إلى الخط المحافظ، ويقترب من اليمين التقليدي، مع رؤية ضيقة للعالم.
بالنسبة للبعض منهم، دعم القضية الفلسطينية يعني دعم "الإرهاب"، بناءً على الشعارات والدعاية التي تروّج لها وسائل الإعلام الكبرى، وهذا يقود إلى اللامبالاة والعزوف عن المعرفة، فضلا عن غياب الدعم.
وهؤلاء غالبا لا يدركون طبيعة الصراع أو مفهوم المقاومة في فلسطين؛ فهم يختزلون ستين عاما من القتل والتهجير وسرقة الأراضي في أحداث 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 فقط.
كيف تقيمون دور الجاليات الفلسطينية في العالم في تعزيز الرواية الفلسطينية ومواجهة الدعاية الإسرائيلية؟ وما الأدوات الأكثر فاعلية؟
إن نشر التاريخ بأسلوب تعليمي أصبح أداة ثمينة للغاية، تساعد السلفادوريين على فهم ما جرى منذ ما قبل عام 1948، وليس منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر فقط.
وفي السلفادور، تؤثر شريحة كبيرة من المسيحيين الإنجيليين بالترويج لخطاب صهيوني قائم على فكرة "الشعب المختار"، وأرى أن التوضيح التاريخي المستند إلى الوقائع لا يقل قوة عن تلك السرديات المسيحية المبنية على التطرف الديني.
كيف تفسّرون تنامي التضامن الشعبي مع غزة في السلفادور وأمريكا اللاتينية؟ وما الذي يميّز خطاب هذه المجتمعات عن أوروبا والولايات المتحدة؟
الفرق تصنعه الناس، وخاصة الشباب؛ فالشباب يميلون إلى رفض الشعارات الجوفاء، ويبتعدون عن التطرف والعنف.
إن المجازر في غزة تجاوزت قدرة البشر أصحاب المبادئ على التحمل، بغض النظر عن معتقداتهم. القضية هنا قضية إنسانية، والشباب لا يقبلون حكومات تموّل الإبادة.
ومن المهم إدراك أن ما يحدث في غزة ليس حربا؛ فالحرب تتطلب طرفين يمتلكان القدرة على القتال. أما في غزة، فالقوة العسكرية والتمويل الدولي تتمركز في طرف واحد فقط.
ولهذا، من الضروري العمل مع الشباب عبر حملات التوعية والتعليم، تماما كما نفعل في المتحف الفلسطيني في السلفادور.
ما الدور الذي يمكن أن تلعبه دول أمريكا اللاتينية في دعم غزة والمساهمة في صياغة مسار سياسي جديد للقضية الفلسطينية؟
من المهم أن تواصل شعوب أمريكا اللاتينية الضغط على حكوماتها كي لا تكون شريكة في الإبادة الجارية في غزة، وأنا أدعوهم لذلك؛ فنحن نحتاج إلى دعم الحق الفلسطيني وتوحيد الجهود المختلفة.
أما الطريق السياسي الجديد، فسينبع من الشعوب، وسيدفع الحكومات - عندما تشعر بأن شرعيتها مُهدّدة - إلى الوقوف مع شعوبها ودعم مواقفها.