قضايا وآراء

الإسلام السياسي والنموذج السوري.. صراع النماذج وتشكيل وعي الجيل القادم

يتحدث الكاتب عن "نموذج الشرع السوري"- سانا
شهدت الساحة السياسية العربية، منذ عقود، تبلور نموذجين رئيسين للحركات الإسلامية الطامحة إلى السلطة والتأثير، يمثلان مسارين مختلفين في التعامل مع تحديات الواقع السياسي المعقد.

النموذج الأول، الذي يمكن تسميته بـ"النموذج الإخواني" أو نموذج الإسلام السياسي الشامل -مع تحفظي على مصطلح "الإسلام السياسي"- ويضم جماعة الإخوان المسلمين ومن يدور في فلكها من تنظيمات تسعى إلى التغيير عبر العمل المؤسسي، والمشاركة السياسية، والتغلغل الاجتماعي، مع الحفاظ على مرجعية إسلامية واضحة.

أما النموذج الثاني، فهو "النموذج الجهادي المسلح"، الذي يتبنى خيار المواجهة المسلحة المباشرة مع الأنظمة القائمة أو القوى الخارجية، معتبرا إياها الطريق الوحيد لإقامة المشروع الإسلامي، ونموذجه هنا الشرع/الجولاني وخلفيته الجهادية المسلحة التي كانت تتقاطع مع النموذج الغربي بكل أدواته وأفكاره.

لقد مرّ الإخوان المسلمون ومن في فلكهم بمراحل من الصعود والهبوط، بلغت ذروتها في أعقاب "الربيع العربي"، قبل أن يتعرضوا لعمليات "احتواء أو تصفية وتشويه" من خصومهم، سواء أنظمة حاكمة أو مجموعات رافضة لهم، مما أدى إلى تراجعهم الظاهري أو احتوائهم في بعض الساحات أو تفككهم في ساحات أخرى.

ظاهرة أكثر تعقيدا من مجرد تحول داخلي في صفوف بعض الإخوان المسلمين أو المنتمين للإسلام السياسي عموما، خاصة السوري، فأصبحنا أمام تحول في الموقف من نموذج آخر كان يُصنف تاريخيا ضمن النموذج الثاني (الجهادي المسلح)، وهو ما يمكن تسميته بـ"نموذج الشرع السوري" أو ما يمثله من فصائل كانت تحمل السلاح

وفي خضم هذا التراجع، تنجح الثورة السورية بقيادة (الشرع/الجولاني) في إسقاط بشّار الأسد بعد توفر بيئة إقليمية ودولية سمحت بذلك وشجعت عليه في أعقاب السابع من أكتوبر وطوفان الأقصى، فيتم تمرير فكرة أريد لها أن تكون الفكرة الحاكمة أو المركزية لما بعد بشّار، وهي أن "مصلحة" الدولة الناشئة المنهكة من عهد بشّار تتطلب الارتماء في أحضان الغرب والتحالف مع المعسكر الغربي وأذياله الإقليمية، والتطبيع مع الكيان والسكوت عن احتلال الأرض والقبول عمليا بفتنة الدروز، في محاولة لإعادة تموضع سياسي يضمن للنظام الجديد البقاء والعودة إلى دائرة التأثير والنمو والاستقرار ونحو ذلك.

المحور الأول: التحول المعقد: من "الإخوان" إلى "حكومة الشرع"

نتج عن ذلك استراتيجية جديدة لدى مجموعات ليست بالقليلة من المنتمين للتيار السياسي الإسلامي أو الإخوان المسلمين لتبرير ما يقوم به الشرع وحكومته بحجة المصلحة، مما أدّى عمليا إلى "حرق النموذج الثاني"، أي النموذج الجهادي أو المقاوم.

أي أن النموذج "القيمي/المبادئي" تمت تصفيته وشيطنته، والنموذج الجهادي يجري الآن حرقه كذلك سواء على يد النظام العالمي وأدواته في المنطقة أو على يد أنصار النموذج الأول الذي فشل في البقاء والاستمرار فظنّ أنه يمكن النجاح بنموذج "نفعي/براغماتي".

الفكرة المحورية هنا تكمن في رصد ظاهرة أكثر تعقيدا من مجرد تحول داخلي في صفوف بعض الإخوان المسلمين أو المنتمين للإسلام السياسي عموما، خاصة السوري، فأصبحنا أمام تحول في الموقف من نموذج آخر كان يُصنف تاريخيا ضمن النموذج الثاني (الجهادي المسلح)، وهو ما يمكن تسميته بـ"نموذج الشرع السوري" أو ما يمثله من فصائل كانت تحمل السلاح. هذا النموذج، الذي كان يُفترض أن يمثل قمة "العقل المبدئي القيمي" في مواجهة الأنظمة، شهد تحولا جذريا في خطابه وممارساته بعد أن تم احتواؤه أو إعادة توجيهه.

التحول هنا ليس في النموذج الإخواني نفسه فحسب، بل في موقف جزء من التيار الإخواني أو الإسلام السياسي العام منه. فبعد أن تعرض النموذج الإخواني لـ"الاحتواء أو التصفية والتشويه"، بدأ هذا الجزء بالعمل غير المقصود على حرق النموذج الثاني (النموذج السوري/الشرع) عبر تبرير الارتماء في الغرب والتطبيع والتحالف مع المعسكر الغربي وأذياله في المنطقة.

الكارثة الفكرية تكمن في أن هذا التحول لم يأتِ من تيار براغماتي أصيل، بل من تيار كان يُنظر إليه على أنه حامل لواء "المبدئية القيمية" (الإخوان ومن في فلكهم)، والذي بدأ يبرر التحول النفعي البراغماتي لـ"حكومة الشرع" التي خرجت من رحم النموذج الجهادي المسلح.

المحور الثاني: تبرير التطبيع والتحالف: تسييل المبادئ باسم "المصلحة"

إن أخطر مظاهر هذا التحول هو تبرير هذا الجزء من التيار الإسلامي لـ"حكومة الشرع" في ممارسات كانت تُعد في قاموس الإسلام السياسي "خيانة عظمى". فـ"حكومة الشرع"، التي نشأت من خلفية جهادية مسلحة، بدأت تتبنى سياسات نفعية براغماتية تشمل:

- التطبيع مع الكيان الصهيوني: وهو ما كان يُعتبر خطا أحمر لا يمكن تجاوزه في أدبيات الإسلام السياسي "المبدئي القيمي".

- الارتماء في أحضان الغرب: والتحالف مع قوى دولية وإقليمية كانت تُصنف في السابق كـ"أعداء" أو "قوى استعمارية".

- تمجيد الأنظمة الدكتاتورية: وتبرير التحالف معها بدعوى "المصلحة" و"الضرورة السياسية".

- التنازل عن الأرض والقبول باحتلال أراضي جديدة كل يوم في الجنوب السوري من قبل إسرائيل دون أي مقاومة تذكر حتى ولو بالحجارة، في حين يتم استدعاء الجيش والشرطة ضد مجموعات أخرى كردية أو علوية.

هنا تظهر الكارثة الفكرية بوضوح: أنصار النموذج الأول (الإخواني) يبررون أعمال النموذج الثاني (الجهادي المتحول إلى نفعي) ويدعمون تحولاته البراغماتية. هذا التبرير يتم تحت دعوى "المصلحة"، التي يتم تضخيمها وتوسيعها لتشمل التنازل عن أهم المبادئ. إن هذا التبرير يمثل تناقضا صارخا مع الخطاب التاريخي لهذا التيار، الذي لطالما رفع شعارات المقاومة ورفض التطبيع، مما يضع مصداقيته على المحك أمام قواعده والجيل الصاعد. هذا التحول ليس مجرد تغيير في التكتيك، بل هو انهيار في البنية الفكرية التي كانت تقوم على ثنائية "الحق والباطل" و"الولاء والبراء".

إن المصلحة، في هذا السياق، تصبح "نسبية وتتسع وتضيق وفقا للهوى والحظوظ". هذا التلاعب بالمفاهيم الشرعية والفكرية يهدف بقصد أو دون قصد إلى:

- إعادة تشكيل عقل "الإسلامي": ليتحول من عقل "مبادئي قيمي" يرى الثوابت كبوصلة، إلى عقل "نفعي براغماتي" يرى المنفعة الآنية كمعيار وحيد.

- تأهيل العقلية الجديدة: لتناسب طبيعة المرحلة القادمة عربيا، وهي مرحلة تتطلب التكيف الكامل مع الأجندات الإقليمية والدولية التي لا تقيم وزنا للمبادئ، ويصبح الكيان الصهيوني هو سيد الإقليم بلا منازع.

المحور الثالث: نموذج حماس: آخر نماذج العقل القيمي الفاعل

في خضم هذا التحول والتبرير، يبرز نموذج حماس كـ"آخر نماذج العقل الإسلامي (المبدئي القيمي) الفاعل" على الساحة. إن حماس، كحركة مقاومة، تمثل تجسيدا لرفض التنازل عن المبادئ الأساسية، وفي مقدمتها مبدأ المقاومة والتحرير، وعدم الاعتراف بالاحتلال أو التطبيع معه.

ولذلك، فإن الجهود المبذولة لسحق هذا النموذج ليست مجرد مواجهة عسكرية أو سياسية، بل هي محاولة لسحق الفكرة التي يمثلها: فكرة أن التمسك بالمبادئ والقيم يمكن أن يظل خيارا فاعلا ومؤثرا في وجه القوى الكبرى.

إن الذين يعملون على سحق نموذج حماس هم أنفسهم الذين يعملون على تلميع وتزيين النموذج الآخر (النفعي البراغماتي المتحول) في النموذج السوري. الهدف الاستراتيجي من هذه العملية المزدوجة هو:

- توفير "جنة النفعي المتوهمة": تقديم النموذج البراغماتي كخيار وحيد للنجاة والنجاح، حيث يمكن تحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية عبر التنازل والتحالف، حتى لو كان هذا النموذج قد خرج من رحم الجهاد المسلح، مع ملاحظة أن كل وعود الرخاء لم تراوح مكانها ولم تتحول إلى مكتسبات حقيقية على الأرض.

- بناء "نار القيمي الموعودة": تصوير النموذج القيمي (حماس) كخيار يؤدي حتما إلى الدمار والعزلة، وبالتالي تخويف الجيل الجديد من الاقتراب منه.

هذا التناقض الحاد بين النموذجين يضع الجيل الجديد أمام خيار وجودي: إما التمسك ببوصلة القيم والمبادئ مع تحمل التكاليف الباهظة، أو الانخراط في منطق المنفعة والمكاسب السريعة مع التخلي عن الثوابت.

المحور الرابع: الغرب والكارثة الداخلية: التشوش وافتقاد البوصلة

من المفهوم أن تسعى العقلية الغربية، التي تقوم على أسس براغماتية نفعية، إلى ترويج النموذج الذي يخدم مصالحها، وهو النموذج القابل للتفاوض والاحتواء. لكن الكارثة تكمن في اللحظة التي يبدأ فيها "القيمي المبدئي" (تيّار الإسلام السياسي المؤيد) في تبرير تحول "القيمي المبدئي السابق" (نموذج الشرع) إلى "نفعي/براغماتي".

هذا التحول الداخلي يمثل انهيارا للخطاب الإسلامي من الداخل، ويخلق فراغا فكريا وروحيا هائلا. فعندما يرى الجيل الصغير أن من كان يمثل القدوة في التمسك بالمبادئ قد بدأ يتنازل عنها تحت دعوى "المصلحة"، فإن ذلك يؤدي إلى:

صراع على تعريف العقل الإسلامي لنفسه؛ هل سيظل هذا العقل محكوما ببوصلة القيم والمبادئ، أم سيتحول إلى مجرد أداة براغماتية تتكيف مع متطلبات القوى الكبرى؟

- تآكل الثقة: فقدان الثقة في القيادات والأطر الفكرية التي كانت تمثل المرجعية، خاصة عندما يرى أن التنازلات تأتي من تيارين مختلفين (الإخواني والجهادي السابق).

- العدمية السياسية: الشعور بأن كل الشعارات والمبادئ مجرد أدوات للمساومة، مما يولد حالة من العدمية السياسية واليأس من إمكانية التغيير القيمي.

- الاستسلام للواقع: القبول بأن الواقع القائم، بكل ما فيه من تنازلات، هو القدر الذي لا مفر منه، وأن المقاومة الفكرية أو القيمية لا طائل من ورائها.

إن هذا التشوش ليس مجرد أزمة فكرية، بل هو أزمة هوية عميقة، حيث يتم نزع البوصلة من يد الجيل الصاعد، ليصبح فريسة سهلة لأي خطاب نفعي يَعِدُ بالنجاح أو البقاء، حتى لو كان على حساب الثوابت.

إن الجيل الذي نشأ على أن التطبيع خيانة، يرى الآن من كان يمثل له القدوة يبرر هذا الفعل أو يصمت أو يحاول إمساك العصا من المنتصف، هذه الميوعة الفكرية تخلق فجوة معرفية وأخلاقية عميقة، ويجعل من الصعب عليه التمييز بين الخطاب السياسي الصادق والخطاب النفعي المضلل.

مستقبل العقل الإسلامي بين الثبات والذوبان

إن الصراع الدائر اليوم في الساحة العربية ليس صراعا على السلطة فحسب، بل هو صراع على تعريف العقل الإسلامي لنفسه؛ هل سيظل هذا العقل محكوما ببوصلة القيم والمبادئ، أم سيتحول إلى مجرد أداة براغماتية تتكيف مع متطلبات القوى الكبرى؟

إن الاستثناءات في المواقف والأشخاص موجودة، ولا يمكن التعميم المطلق، لكن القاعدة التي يتم تشكيلها الآن هي قاعدة النفعية. وإذا نجحت استراتيجية "حرق النموذج القيمي" وتلميع "النموذج النفعي"، فإن الجيل القادم سيورث عقلا مشوشا، يرى في التنازل عن المبادئ دهاء سياسيا كما يتم ترويجه فعليا عن نموذج الشرع، وفي التمسك بها غباء أو تطرفا.

إن الحفاظ على نموذج "العقل المبدئي القيمي" ليس مجرد خيار سياسي، بل هو ضرورة وجودية للحفاظ على الهوية والبوصلة الأخلاقية للأمة. وفي غياب هذا النموذج، سيصبح المشهد السياسي العربي مجرد ساحة لتنافس المصالح البراغماتية، التي لا تقيم وزنا للقيم أو الثوابت، وهو ما يمثل أكبر خطر على مستقبل الوعي الإسلامي.

للتواصل عبر فيسبوك
facebook.com/almuneir