قضايا وآراء

ملف المفقودين من التنسيق إلى العدالة والإنصاف.. طريق سوريا الجديدة نحو الحقيقة وجبر الضرر

"حقّ العائلات في معرفة المصير"- سانا
منذ أن بدأ السوريون يلتقطون أنفاسهم بعد سنواتٍ من الحرب، ظلّ السؤال الأثقل حاضرا في كل بيتٍ غاب عنه ابن أو أب أو أخت: متى نعرف الحقيقة؟.. الحقيقة عن المفقودين والمغيبين قسرا، عن الذين دخلوا السجون ولم يخرجوا، عن الذين لم تُسلَّم حتى رفاتهم لأمهاتهم.

فمعرفة الحقيقة لا تنفصل عن العدالة، وجبر الضرر هو البوابة التي لا يمكن تجاوزها نحو مستقبلٍ أكثر إنصافا.

خطوة في الاتجاه الصحيح

إعلان الهيئة الوطنية للمفقودين توقيع إعلان مبادئ التعاون المشترك مع كلٍّ من اللجنة الدولية لشؤون المفقودين (ICMP) واللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC) والمؤسسة الدولية المستقلة للمفقودين (IIMP) يمثل خطوة مهمة في بناء منظومة وطنية دولية متكاملة لمعالجة أحد أكثر ملفات سوريا تعقيدا. هذا التعاون ليس مجرد اتفاق إداري، بل تأسيس لعلاقة ثقة بين المؤسسات الوطنية والخبرات الدولية، وبين جهود الدولة ومساعي المجتمع المدني، وبين التقنية والعاطفة، وبين العلم والذاكرة. فمن دون هذا التكامل، تبقى الحقيقة مجزأة، والعدالة مؤجلة، وهو بلا شك منعطف في مسار العدالة الانتقالية.

معرفة الحقيقة لا تنفصل عن العدالة، وجبر الضرر هو البوابة التي لا يمكن تجاوزها نحو مستقبلٍ أكثر إنصافا

لقد كان الخطر دائما أن يتحوّل ملف المفقودين إلى ملف رمزي حاضر في الخطابات وغائب في التنفيذ. أما اليوم، فإنّ هذا الإعلان يعيد صياغة العلاقة بين البحث عن الحقيقة والسعي لجبر الضرر، على قاعدة أن العدالة لا تُبنى إلا على التعاون والشفافية.

فالمؤسسات الدولية تمتلك القدرة التقنية والعلمية على جمع الأدلة وتحليلها، بينما تمتلك الهيئة الوطنية الشرعية المحلية والإرادة السياسية لترجمة تلك الحقائق إلى حقوقٍ قانونية وعدالة انتقالية وتعويضاتٍ وإنصافٍ فعلي. وعندما يلتقي هذان المساران، يصبح من الممكن أن ننتقل من معرفة ما حدث إلى الاعتراف بمن حدث لهم ذلك، ومن ثم جبر الضرر الذي لحق بهم وبذويهم.

تفاعل وآراء متباينة بعد التوقيع

أثار توقيع إعلان مبادئ التعاون بين الهيئة الوطنية للمفقودين والمغيبين والمنظمات الدولية الثلاث؛ تفاعلا واسعا بين المهتمين والحقوقيين وأسر الضحايا. ورغم الترحيب العام بالخطوة، فإنّ الآراء تباينت بين من رأى فيها انطلاقة حقيقية نحو العدالة، ومن عبّر عن تحفظات على آليات التنفيذ وإمكانية تحقيق نتائج ملموسة.

في الاتجاه الإيجابي، وُصفت الاتفاقية بأنها أول تعاون مؤسسي مباشر بين جهة سورية وطنية وثلاث مؤسسات دولية متخصصة، ما يمنحها وزنا قانونيا وأخلاقيا غير مسبوق.

وقالت كارلا كوينتانا، رئيسة المؤسسة الدولية المستقلة للمفقودين، إنّ "هذا الإعلان يشكّل المرة الأولى التي تتعاون فيها ثلاث مؤسسات دولية متخصّصة في قضايا المفقودين بشكل مباشر مع الجهة الوطنية السورية المعنية بالملف"، مؤكدة أنّ "كلّ شخص في سوريا يعرف أحدا فُقد أثره".

من جهتها، شدّدت اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC) على أنّ "عملية البحث عن المفقودين معقّدة وطويلة الأمد، وتتطلّب تعاون السلطات ومشاركة المجتمع المدني والجهود الدولية"، بينما أكدت اللجنة الدولية لشؤون المفقودين (ICMP) أنّ التعاون مع الجهات الوطنية هو "الضمانة لتحقيق العدالة والإنصاف لجميع العائلات، بصرف النظر عن انتماءاتهم أو جنسياتهم".

ورأت تقارير حقوقية أن هذا التلاقي بين الخبرة الدولية والإرادة الوطنية يمهّد لتوحيد الجهود المبعثرة وبناء قاعدة بيانات موثوقة للمفقودين، الأمر الذي طال انتظاره.

لكن في المقابل، عبّر عدد من النشطاء والمهتمين عن تحفظات واقعية. فالبعض يخشى أن يبقى الإعلان خطوة رمزية لتحسين الصورة السياسية دون أن يُترجم إلى نتائج عملية على الأرض، بينما أشار آخرون إلى أن الجهات الموقّعة تفتقر إلى صلاحيات تنفيذية أو قضائية، ما قد يحدّ من قدرتها على كشف الحقيقة أو محاسبة المسؤولين.

كما أثار بعض المراقبين مسألة غياب الأرقام الدقيقة للمفقودين وتعدّد قواعد البيانات، مؤكدين أن نجاح الاتفاق مرهون بقدرته على توحيد المعلومات وضمان الشفافية في التعامل مع الأسر.

وبين التفاؤل والحذر، اتفقت معظم الآراء على أن التوقيع يمثّل بداية مسار لا نهايته، وأنّ نجاحه يعتمد على استمرار التنسيق، ومأسسة المشاركة المجتمعية، وتحويل ما يُوثَّق إلى حقوقٍ مُعترف بها وجبرٍ فعليٍّ للضرر. فالحقيقة، كما قال أحد المعلّقين، "لن تكتمل إلا حين تثمر عدالة، والعدالة لن تكتمل ما لم تُترجم إلى إنصاف".

جبر الضرر: معنى العدالة الحقيقي

ليس جبر الضرر مجرد تعويض مادي؛ بل هو اعترافٌ بمعاناة الضحايا، وإعادة اعتبارٍ لهم، ومصالحة مجتمعية يشمل التعويض المادي والمعنوي، الدعم النفسي والصحي، الحق في العيش الكريم، واستعادة الهوية القانونية للمفقودين. كما يتجاوز الأفراد ليشمل المجتمعات التي تضررت، عبر إعادة ترميم الأحياء والمخيمات والبنى الاجتماعية التي تفككت بفعل الحرب والاختفاء القسري.

هذه المقاربة الشاملة لا تفرّق بين ضحية وأخرى، فالظلم الذي وقع على السوريين، والفلسطينيين في سوريا، هو جزء من مأساة واحدة تتطلب عدالة واحدة، والمعيار الحقيقي لجبر الضرر هو ألا يُستثنى أحد من دائرة الإنصاف.

الحقيقة ثمرة التنسيق لا التنافس
دفعت سوريا، ومعها كل من عاش على أرضها، ثمنا باهظا من الألم والفقد والغياب. واليوم، يُطلب من الجميع أن يشارك في بناء الطريق نحو الحقيقة هيئة كانت أو منظمة دولية، عائلة كانت أو مجتمعا مدنيا

في السنوات الماضية، تكاثرت المبادرات والجهات التي تعمل على توثيق المفقودين، لكنّ غياب التنسيق جعل الحقيقة تتوزّع في الأدراج.

اليوم، مع هذا الإطار التعاوني الجديد، تُتاح فرصة لتوحيد الجهود في قاعدة بيانات وطنية موحّدة، وربطها بالقدرات الدولية في تحليل المعلومات والحمض النووي، ومأسسة التواصل مع أسر الضحايا ومنظماتهم. إنها فرصة لبناء ذاكرة موثقة ومسؤولة، لا ذاكرة متفرقة بين تقارير ومنصات.

من الحقيقة إلى العدالة

نجاح هذا المسار لن يُقاس بعدد الاتفاقيات الموقّعة، بل بمدى تحوّل نتائج العمل المشترك إلى حقوقٍ معترف بها: حقّ العائلات في معرفة المصير، حقّ الضحايا في الاعتراف الرسمي، وحقّ المجتمع في أن يتعلم من ماضيه ويحول دون تكرار ما حدث. هذه هي العدالة الانتقالية بمعناها الجوهري: ليست ثأرا من الماضي، بل مصالحة شجاعة معه.

العدالة لا تُؤجَّل بعد الآن

لقد دفعت سوريا، ومعها كل من عاش على أرضها، ثمنا باهظا من الألم والفقد والغياب. واليوم، يُطلب من الجميع أن يشارك في بناء الطريق نحو الحقيقة هيئة كانت أو منظمة دولية، عائلة كانت أو مجتمعا مدنيا.

فجبر الضرر ليس مسؤولية مؤسسة واحدة، بل واجب وطني وأخلاقي مشترك. حين تتكامل الجهود، ويُنظر إلى الضحايا بعين واحدة لا بعينين، يمكن عندها القول إنّ العدالة في سوريا لم تعد وعدا مؤجلا، بل واقعا في طور التكوين.