قضايا وآراء

شهادتي على مذبحة فض اعتصام رابعة (٢)

كانت تجربة إنسانية جديدة أراها أمام عيني، لم تكن مشاهد الوحشية هذه نراها إلا على شاشات التلفزة في فلسطين أو أماكن أخرى يسحق فيها الإنسان دون وازع من ضمير أو دين.. الأناضول
في الحلقة الأولى من هذه الشهادة توقفنا عند الرجل المسن الذي واجه الجرافة ولكنها سحقته تحتها ثم جرفته بعيدا، كان مشهدا بالغ القسوة، كانت تجربة إنسانية جديدة أراها أمام عيني، لم تكن مشاهد الوحشية هذه نراها إلا على شاشات التلفزة في فلسطين أو أماكن أخرى يسحق فيها الإنسان دون وازع من ضمير أو دين.

التهب الموقف وأخذ المعتصمون يكبرون وبعضهم يبكي والآخر غاضب وبدأ الجميع يلقي الحجارة على الجرافة القاتلة وسائقها المجرم في محاولة لوقف تقدمه وتجريفه للخيام وللمصابين الأحياء ولجثث الشهداء ولكن قنابل الغاز ورصاصات الموت كانت تحصد الجميع بلا تمييز.

الصفوة الممتازة

قصة هذا الرجل الشهيد ذكرتني بمعنى جميل، أنه في بعض الأحيان ووقت اشتداد الأزمة وتوالي النوازل والكربات يسقط منّا الشهيد تلو الشهيد والوليد تلو الوليد، عندها قد يتسرب إلى قلوبنا لوعة، أو جزع أو سخط أو غضب، ونقول لماذا يموت أفضل وأنقى وأطهر من فينا، لماذا يموت الأنقياء الأتقياء وتحرق جثثهم أو تلقى في القمامة؟!

والإجابة: إنها الصفوة الممتازة كما سمّاها أمير العلماء الشيخ "محمد الغزالي" رحمه الله، كان يتحدث عن كتائب المجاهدين في فلسطين وغيرهم من شرفاء الوطن في حرب 48، وعن مدى أخلاقهم وتميزهم، وكان يقول وخشيت على هؤلاء من الموت فقد نحتاج إلى أجيال حتى نربي جيلا مثله.

كان واضحا منذ البداية أن فض الاعتصام لم يكن الهدف الأول لدى السيسي وحاشيته، ولكن إحداث مجزرة دموية تجاه المعتصمين تجعل من الصعب على أركان الانقلاب العودة إلى الوراء بعدها والتخلّي عنه، فضلا عن إحداث صدمة نفسية عنيفة للشعب يفرض بها سطوته ويزرع الخوف في قلوب الناس.
ثم يمضي الشيخ فيقول "ذكرني الله بحروب الردة، عندما قاد "مسيلمة الكذاب" جيوشه لقتال المسلمين وموقف "أبوبكر الصديق" رضي الله عنه، عندما مات في بداية المعركة الفارقة في تاريخ الإسلام أغلب حفظة القرآن وكبار الصحابة ورجالات بدر، ما جعله يجمع القرآن بعد موت غالب حفظته." إنهم بدريو هذا الزمان (من شهد غزوة بدر) الذين قال عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) نحسبهم كذلك.

وهكذا في كل المعارك الفاصلة في تاريخ الإسلام يموت ويستشهد في أولها الصفوة الممتازة الأنقى والأطهر والأفضل، ليكونوا وقودا للنصر، وقربانا للحرية، ومعراجا للأمة، فسلام على شهدائنا جميعا ألف سلام .

الهدف الحقيقي للمجزرة

كان واضحا منذ البداية أن فض الاعتصام لم يكن الهدف الأول لدى السيسي وحاشيته، ولكن إحداث مجزرة دموية تجاه المعتصمين تجعل من الصعب على أركان الانقلاب العودة إلى الوراء بعدها والتخلّي عنه، فضلا عن إحداث صدمة نفسية عنيفة للشعب يفرض بها سطوته ويزرع الخوف في قلوب الناس.

فجميع الإصابات التي كانت تصل الى المستشفى الميداني بمسجد رابعة أو المركز الإعلامي في الساعة الأولى كانت كلها في الرأس والصدر.

وسقط مئات الشهداء في الساعات الأول بهذه الطريقة، ولم يكتف المجرمون بذلك، بل وصل الأمر الى استخدام الجيرينوف مع المتظاهرين العزل من النساء والأطفال وكبار السن، كما استخدموا أسلحة محرم دوليا استخدامها وقت الحرب!!

وبالتالي بعد أن كنا نشاهد الشهداء مصابين بإصابات في الرأس أو الصدر بدأنا نرى جثث غير مكتملة جراء استخدام الأسلحة الثقيلة معهم.

ممر الموت

في ذلك الوقت كنت أحاول الوصول إلى المركز الإعلامي لمتابعة تطورات الموقف مع مسئولي الاعتصام، لكن أصبح الأمر مهمة مستحيلة فقد كانت رشاشات المدافع الآلية تحصد في طريقها كل شخص يحاول المشي في الممر الواصل بين المركز الإعلامي وشارع عمارة المنايفة حتى أنني اضطررت للنوم على بطني وإلصاق رأسي بالأرض لفترة طويلة لأن الرصاص كان ينهمر كالمطر بشكل عشوائي في بداية هذا الممر الذي حبست فيه.

وأذكر أنني حاولت مرة ثانية الوصول اليه مع بعض المعتصمين ففوجئنا بمدفع رشاش آلي يفتح علينا لساعة كاملة دون توقف وكنا قد انبطحنا ارضا وكان بيننا من يرفع رأسه للحظات فتنفجر رأسه بجوارنا ظللنا هكذا فترة حتى خرجنا من ممر الموت هذا زحفا بين جثث الشهداء حولنا.

فقد جن جنونهم من استمرار البث الفضائي لعملية الفض وأن المجزرة تتم على الهواء مباشرة، فكان الاستهداف له عنيفا وبشكل هستيري حتى امتلأت كل الطرق اليه بالجثث، فقد توقف المعتصمون عن نقل الجثث الشهداء لأنه لم يعد هناك أماكن فقد تراكمت الجثث فوق بعضها، كما أن النظام أرسل طائرات مروحية أصبحت تطلق علينا هي الأخرى بلا هوادة .

عمارة المنايفة

قام المعتصمون عند شارع الطيران بإشعال النار في بعض الأقمشة والأخشاب وإطارات السيارات لصناعة حاجز لمنع تقدم الجرافات وتحديدا أمام عمارة المنافية التي كانت لا تزال بناءا خرسانيا حينها وكان عدد كبير من النساء والأطفال وبعض المعتصمين قد احتمى به، فكان الشباب المعني بتأمين النساء والأطفال داخل العمارة يرسمون ملاحم بطولية اسطورية لمنع تقدم القوات وكانوا يقبلون على الموت دفاعا عن المعتصمين إقبال الحبيب المشتاق الى لقاء ربه.

كان للسيدات دور عظيم في معركة الصمود وكنّ يدافعن عن الميدان ويحاولن إسعاف الجرحى أو نقل الجثث إلى مكان آمن إكراما لهم، بل إن كثيرا من النساء كان لهن أثر كبير في تحفيز الرجال وتشجيعهم على الصمود
كانت السقالات الخشبية لا تزال معلقة على العمارة والشباب يحاول فكّها واشعال النيران بها حتى تسقط وتقطع طريق القوّات والجرافات والطائرات الهليكوبترلا تتوقف مدافعها عن ضربهم وهم يحاولون غير ملتفتين لها فك الأخشاب و اسقاطها أرضا وصناعة حاجز خشبي أشعلوا فيه النيران لمنع تقدم القوات وجرافات الموت، مما عطّل تقدمهم نحو ساعتين حتى غلبت الكثرة وقتل معظم الشباب واقتحم الأمن مبنى العمارة ة قتل كل من كان فيه حتى المصابين كان يجهز عليهم و هي المجزرة البشعة التي تم توثيقها في فيلم وثائقي عرض على قناة الجزيرة تحت عنوان "عمارة المنايفة ".

كان الأوغاد يتعمدون إطلاق النار على المسعفين أو من يحملون جثث الشهداء أو المصابين، لقد كان مطلوبا أن يموت الجميع ولا يبقى هناك شهود أحياء على هذه المجزرة ومن يحاول رفع هاتفه للتصوير كان يتم قنصه فورا الا أن الله سلّم واستطعت توثيق بكاميرا هاتفي أحد أهم ملاحم المعركة وهو المشهد الأخير قبل اقتحام عمارة المنايفة وكان قد تركّز الهجوم من القوات على العمارة ومن فيها ، فتوقف إطلاق الرصاص ناحيتنا لدقائق، فاستطعت خلالها توثيق الحدث وما يظهر في المقطع المصوّر مجرد معتصمين سلميين و ليس مجموعات مسلحة كما حاول إعلام النظام تصويره لتبرير المقتلة، بعد انهيار المقاومة في العمارة تسارع اقتحام الاعتصام وتجريف جثث الشهداء والمصابين وهم أحياء.

رابط الفيديو الذي صوّرته قبل اقتحام عمارة المنايفة مباشرة:



في الفيديو تشاهدون الحاجز الذي صنعناه من الأخشاب وأقمشة الخيام وعجلات السيارات المشتعلة بيننا وبين القوات وتظهر عمارة المنايفة بالسّقالات الخشبية عليها في جهة اليسار، كثير ممن يظهرون في هذا الفيديو أصبحوا شهداء أو معتقلين من وقتها في سجون الظلمة.

النساء المعتصمات

كان للسيدات دور عظيم في معركة الصمود وكنّ يدافعن عن الميدان ويحاولن إسعاف الجرحى أو نقل الجثث إلى مكان آمن إكراما لهم، بل إن كثيرا من النساء كان لهن أثر كبير في تحفيز الرجال وتشجيعهم على الصمود، بل أني أكاد أجزم أنني لم أجد امرأة ساكنة لا تفعل شيئا، هذه تكسّر حجارة الرصيف لتصنع منه حصى تجهزه للرجال لإلقائه على القوات المتقدمة لتأخير الاقتحام وتلك تداوي جريحا وثالثة توزع الماء على المختنقين بالغاز ورابعة تصرخ في الرجال أن يصمدوا ولا يقتحموا الميدان وتذكرهم بالله.

كنّا نودع بعضنا مع أحبتنا بالنظرات فمن تراه الآن أو تسلم عليه ربما لن تراه مرة أخرى أبدا وقد كان باقي المعتصمين أو من تبقى منهم يلهج بالتكبير والدعاء على الظالمين، مع تواصل تقدم القوات كان يتم جرف جثث الشهداء والمصابين كما يظهر في هذا الفيديو الذي نشر وقتها ومكان هذه الجثث هو بداية ممر الموت الموصل للمسجد من الخلف والمركز الإعلامي:



 تجريف جثث الشهداء والمصابين

بعد تجريف الجثث وصلوا إلى المسجد والمركز الإعلامي الذي كانا ممتلئين بجثث الشهداء وبدأت تضيق علينا الدائرة من كل الاتجاهات ومن باقي الشوارع التي تصل إلى الميدان، وفي فترة الظهيرة أو قٌبيلها قليلا استطاعوا استهداف سيارة البثّ الفضائي التي كانت تنقل الأحداث للعالم وقاموا بتصفية كل الشباب الذي كان يحميها.

كنّا مع ضغط الرصاص وقنابل الغاز وتقدم الجرّافات نتراجع إلى الخلف ببطء حتى وصلنا قبيل العصر إلى المنصة التي تتوسط الاعتصام وأصبح الحشد الباقي على قيد الحياة متجمع أمام المنصة والقوات تحيط به من كل مكان، والجثث حولنا ورائحة شواء أجساد الشهداء المحترقة تزكم الأنوف والنفوس والمصابين الذين لا يجدون من يسعفهم على الأرض بلا مغيث أو نصير بعد الله سوى كلمات التثبيت والدعاء.

لقد كان مشهدا مهيبا جليلا لا تمحيه ذاكرة ولا تنساه عين، مشهدا من مشاهد القيامة، كانت الغالبية العظمى صائمة محتسبة، يحيط بنا الموت من كل مكان حتى من أعلى عبر الطائرات والقنّاصة على أسطح العمارات.

رأيت أحد المسئولين عن الاعتصام قد جلس على الرصيف مجهدا فسألته ما العمل الآن؟، فقال لي ننتظر التوجيه من المنصّة، فأخذتني الدهشة وتلفّت إلى المنصة الخاوية على عروشها، التي تشتعل فيها النيران وأخذت أنظر إليها وإليه، ففهمت أنّ الرجل في حالة صدمة وأنه لا يعي ما يقول.

في هذه اللحظات وقفت أتأمل في وجوه الناس المتعبة والشفاه التي تلهج بذكر الله و المطمئنة بربّها ، مرّ سريعا أمامي شريط حياتي واختلطت عليّ الأفكار عما سيفعله الله بنا و هل حانت لحظة النهاية و هل سأنال الشهادة أيضا أم أننّي لا أستحقها أم سيتم اعتقالي أم و أم ؟، أخذنا نقترب من بعضنا نلتمس دفء الأخوة و طمأنينة نبل الغاية وأخذنا نتعاهد على الثبات وألا نخون دماء الشهداء ، حتى جاءت لحظة الغدر، تستكمل لاحقا بإذن الله تعالى.

للتواصل عبر الفيسبوك:

: https://www.facebook.com/share/19Q8TQTgUB/?mibextid=wwXIfr

*خبير في الشئون السياسية والإستراتيجية