قضايا وآراء

شهادتي على مجزرة فض اعتصام رابعة (4)

"لم يريدوا أن يعرف أحد عدد القتلى الحقيقي أو المصابين"- جيتي
توقفنا في الجزء السابق عند جلوسي على الرصيف بعد أن أنزلوني من الدراجة النارية وكانت دمائي تنزف وكان الإجهاد والإعياء قد أخذا مني مبلغهما، وكنت على وشك أن أفقد وعيي ثانية، ثم رأيت من بعيد مجموعة المعتصمين قادمين في اتجاهي بعد أن خرجوا من الميدان راجلين، فلا توجد مواصلات فقد كانت المنطقة مغلقة بسبب الكمائن، وعندما اقتربوا منّي وجدت أنّهم من الأخوة الأفاضل الذين كنت معتصما معهم، وكان منهم الأستاذ محمد الخولي رحمه الله (من مدينة المحلة الكبرى في دلتا مصر)، فأقبلوا عليّ، وبعد السلامات والاطمئنان عليّ، تطوّع أحدهم بالبقاء معي وأن يتحرك الباقي سريعا لأن أي تجمع سيلفت انتباه قوات الجيش والشرطة المنتشرة في كل مكان وسنُعتقل جميعا أو نُقتل.

قال لي الأخ الذي بقي معي: سنوقف أي سيارة ونطلب منهم نقلك إلى أي مستشفى آمن حتى نوقف النزيف، وكان قد مضى نحو ثلاث ساعات على إصابتي، وفعلا بدأنا نشير للسيارات حتى مضت نصف ساعة ولا يقف أحد.

وفي النهاية توقفت سيارة فيها شابان ملتحيان في أواسط العشرينيات، وكلمهم الأخ المرافق لي وقال لهم معي مصاب من فض اعتصام رابعة ونريد نقله إلى المستشفى، ووافقا فورا. وعلمنا أنهما عندما علما بالفض وشاهداه على التلفاز نزلا إلى الميدان للمساعدة بسيارتهما لنقل الجرحى وشاءت إرادة الله أن يجمعنا معا.

وكان الكثير من أهالي المنطقة التي كان فيها الاعتصام قد حاولوا المساعدة سواء، باستضافة معتصمين في بيوتهم حتى تنتهي الأزمة أو إسعاف الجرحى.

كمائن الموت

تحركت السيارة وأُطلق الرصاص علينا في كمائن وأوقفنا في ثلاثة منها على ما أذكر، واحد منها تفحص السيارة من بعيد ثم أمرنا بالانصراف، وكمين ثان يقف فيه بلطجية بالسيوف والأسلحة البيضاء، ففي مصر "الشرطة والبلطجية إيد واحدة"، وسألونا: هل معكم مصابون؟ فقال صديقي المرافق: لا، وفتشوا السيارة دون أن ننزل منها، ونحن جميعا نذكر الله حتى يعمي أعينهم عنّا وتركونا بالفعل.

ثم جاء الكمين الأخير وكان كمين بلطجية كذلك وسألوا: هل معكم أحد من المعتصمين أو المصابين؟ فقال لهم: لا، لكن لحية الشابين جعلتهم يتشككون في كلامهم، فطلبوا منّا جميعا النزول من السيارة فورا لتفتيشنا وهم يلوّحون بالسيوف والأسلحة البيضاء. وفتحتُ الباب ولم أكن أقدر على النزول من السيارة بسبب تعبي، فكنت قد دخلت في الساعة السادسة وأنا أنزف دون توقف، فشكّوا في أمري وجاء اثنان منهم ناحيتي وأعينهما تحمل نظرات شرسة واقتربا من الباب وطلبا مني النزول فورا، وهممت بالنزول وكانت المفاجأة!!

إذا كان الله معك فمن عليك؟!
أعتقد أن من أكثر الفئات معاناة خلال عملية الفض أو بعدها هم الأطقم الطبية، فقد كان الوضع داخل المستشفى الميداني غير المجهز كارثيا ومأساويا بمعنى الكلمة، فلا توجد معدات طبية لمعظم الإصابات الحرجة التي كانت تصل إليه، فضلا عن الأعداد الهائلة من المصابين الذين كانوا بالآلاف مع طاقم طبي بالعشرات. أعتقد أنها كانت تجربة إنسانية في غاية الصعوبة وتحتاج لتوثيق كامل لها، سواء لمحاسبة هؤلاء المجرمين يحين وقت الحساب أو حتى كدرس وعبرة للأجيال القادمة

استعنت بالله ونزلت من السيارة واستندت بظهري عليها حتى لا أسقط من الإعياء، وفتشوا مكان جلوسي الممتلئ بالدماء، ولكنّ الله أعمى أبصارهم فلم يروا الدماء التي تملأ المكان، وتحدثوا معي وأنا واقف أمامهم أردد في نفسي الآيات الأول من سورة "يس".

فلم يروا ملابسي الممزقة التي تملؤها الدماء، رغم كثرة عددهم وإحاطتهم بي وبالسيارة من كل جانب!! وقلبوا السيّارة رأسا على عقب والأخوة صامتون، حتّى انتهوا وسمحوا لنا بالانصراف.

تحركنا بعدها الى منزل أحد الشابين بقلوب مطمئنة، فما عشناه في هذه اللحظات العصيبة مع هؤلاء البلطجية استشعرنا فيها معية الله رأي العين، فحالتي وحالة السيارة يستحيل أن تخطئها عين دون حفظ من الله ورعايته.

وصلنا الى منزله الذي كان في منطقة تعجّ بـ"السيساوية"، وهو مصطلح يطلق على المصريين المؤيدين للسيسي، وصعدنا إلى المنزل واستقبلتنا والدته الكريمة، فقد كان يعيشان وحدهما في المنزل. وعلمت منه أن والده ذو منصب كبير في وزارة الصحة وأنه من مؤيدي النظام الجديد. وأحسنَت والدته الطبيبة والطيبة استقبالنا ورعايتنا، وصمم الأخ الكريم صاحب المنزل أن أنام في سريره بحالتي هذه وملابسي ممتلئة بالدماء فرفضت، ولكنه أصّر. وبالفعل نمت على فراشه وأغرقت مرتبته بالدماء وأنا في غاية الحرج، وبات معي كذلك الأخ الفاضل الذي تطوع بالبقاء معي بعد أن وجدني في الطريق يمرضني ويساعدني.

وجاءت صاحبة البيت لترى الجرح فقالت إنه يحتاج نقل للمستشفى فورا، ولا يمكنها التعامل مع الجرح نظرا لقرب مدخل الرصاصة من العمود الفقري، كما أنها لا تملك الأدوات اللازمة.

اعتقال المرضى من غرف العمليات

بدأوا جميعا حملة اتصالات بكل من يعرفونه من الأطباء بحثا عن جرّاح يأتي إلى المنزل أو مستشفى أو عيادة أذهب إليها دون خطر، أخذوا يعطوني مشروبات لتعويض بعض من السوائل التي فقدتها. ونمت حتى أيقظوني ليلا قرب الساعة الواحدة صباح يوم 15 آب/ أغسطس، وقالوا إنهم أخيرا وجدوا مركزا طبيا إسلاميا يستقبل الجرحى "سرا" حتى لا يقتحم الأمن المكان ويعتقل المصابين والأطباء معا.

وقد فعلتها قوات الجيش والشرطة في كثير من المستشفيات أو العيادات التي تواجد فيها مصابون من الفض، فكانوا يعتقلون المصابين والأطباء، ودخلوا في بعض الحالات غرف العمليات واعتقلوا المصاب من على سرير العمليات. كان هناك إصرار على محو آثار الجريمة التي فعلوها بأي وسيلة كانت، لم يريدوا أن يتركوا شاهدا واحدا يحكي القصة، لقد كانوا في سباق مع الزمن أو الشيطان لإخفاء جريمتهم، لم يريدوا أن يعرف أحد عدد القتلى الحقيقي أو المصابين.

وصلنا إلى المركز الطبي ودخلنا إليه خلسة، وما كدنا ندخل حتى رأينا المصابين في كل مكان على سلالم المركز وفي الطرقات. وسلموني للطاقم الطبي الذي أجرى لي أشعة ليعرف مكان الرصاصة ومدى تأثر الأنسجة والأعضاء، وقالوا لي لا بد من التعامل مع الإصابة ووقف النزيف فورا وليس هناك وقت للانتظار حتى ندخل غرفة العمليات، فهناك حالات أكثر خطورة وبالتالي سنتعامل مع الجرح هنا في غرفة عادية ودون تخدير.

وتعاملوا فعلا مع الجرح مباشرة ثم قاموا بخياطته وكتبوا علاجا ونصحونا أن نخرج فورا قبل أن تداهم الشرطة المكان، فقد كانت الحالات الموجودة أكبر بكثير من قدرة تحمل مركز طبي صغير غير مؤهل أصلا للتعامل مع مثل هذه الحالات الحرجة، ولا يمكنهم رفضها كموقف أخلاقي لأنه لا يوجد غيرهم يستقبل هذه الحالات.

لذلك أعتقد أن من أكثر الفئات معاناة خلال عملية الفض أو بعدها هم الأطقم الطبية، فقد كان الوضع داخل المستشفى الميداني غير المجهز كارثيا ومأساويا بمعنى الكلمة، فلا توجد معدات طبية لمعظم الإصابات الحرجة التي كانت تصل إليه، فضلا عن الأعداد الهائلة من المصابين الذين كانوا بالآلاف مع طاقم طبي بالعشرات. أعتقد أنها كانت تجربة إنسانية في غاية الصعوبة وتحتاج لتوثيق كامل لها، سواء لمحاسبة هؤلاء المجرمين يحين وقت الحساب أو حتى كدرس وعبرة للأجيال القادمة.

خرجنا من المركز وعدنا إلى منزل الأخ المضيف وبيتنا عنده ما تبقى من الليلة، وكان الأخ المرافق لي قد رتّب من ينقلني إلى مستشفى آخر أفضل تجهيزا وقريب من محل سكني. ومضى يومان وأنا في ضيافة أخي هذا ووالدته ولم يكن بيننا سابق معرفة على الإطلاق، لكنه فقط حب الخير وإغاثة الملهوف.

معجزة الإصابة

حتى جاء صديق عزيز بسيارته لتنقلني إلى خارج القاهرة ومنها إلى مستشفى خاص أفضل تجهيزا، وهناك قابلت الأهل وكان لقاءا حافلا بالمشاعر والدعوات والحمد الله على فضله.

وفحصني أستاذ جامعي في الجرّاحة، فقال لي نصا: مسار الرصاصة داخل جسدك لم أر له مثيلا في حياتي، بل هو معجزة بكل المقاييس. قلت له: كيف؟

قال لي: مدخل الرصاصة يبعد عن عمودك الفقري ملليمترات بلا مبالغة، وهذه الملليمترات تكفي لإصابتك بشلل كلي دائم لكنّ الله سلم، ثم إن مدخل الرصاصة المفترض طبيا أن تتجه مباشرة إلى القلب فتموت أو إلى إحدى الرئتين فتنفجر وتموت أيضا، لكن هذا المسار الذي أخذته الرصاصة عجيب، سبحان الله!!

فقلت: الشهادة لها رجالها وأنا لا أستحقها، فقال لي: لعل الله قد كتب لك عمرا جديدا لمهمة أخرى ينتظرها منك، فقلت له: نعم، إنني قد مت فعليا يوم الفض لكن روحي لم تخرج بعد، وأسال الله تعالى أن يستعملني ولا يستبدلني.

عدت إلى بيتي ومنزلي، ولكن حملة الاعتقالات من المنازل كانت على أشدها لكل من له نشاط سياسي أو حضر الاعتصام، فخاف الأهل من اعتقالي وخاصة وأنا مصاب ولم أكن أقدر على الحركة وأنام على بطني معظم الوقت.

وتنقلت في عدة منازل حتى جاء رجل ستيني يعرفني ولا ينتمي لأي تيار سياسي أو ديني ودون أن أطلب منه، عرض عليّ عرضا اندهشت منه واستغربت من نبل صاحبه.

يستكمل لاحقا بإذن الله تعالى.

للتواصل عبر الفيسبوك:
www.facebook.com/share/19Q8TQTgUB/?mibextid=wwXIfr