كتاب عربي 21

زلزال زهراني ممداني

أنحاء مختلفة في الولايات المتحدة بل في العالم الغربي عموما، ستشهد هزات ارتدادية للزلزال الذي أحدثه فوز ممداني، مما سيؤدي إلى انحسار المد اليميني الفاشستي في أوروبا على وجه الخصوص.. الأناضول
فوز زهران ممداني، بمنصب عمدة نيويورك حدث جليل، وان شئت قل جلل، أحدث سلفا جلجلة تسبق الزلزلة المرتقبة في المسرح السياسي الأمريكي، فقد حقق الرجل فوزا انتخابيا كاسحا ماسحا على خصم عتيد (اندرو كومو)، الذي عاش عمرا طويلا في دهاليز السياسة والحكم، وهو عمدة سابق وابن عمدة سابق، أنفق ما يناهز 40 مليون دولار، تلقى معظمها من تحالف المليونيرات الذي عمل على اسقاط ممداني.

 هذا الرجل، زهران ممداني، كان يتحلى بكل المواصفات والمؤهلات الخطأ بمقاييس السياسة الأمريكية التقليدية السائدة، فهو صغير السن (34 سنة)، ومهاجر من اصل هندي ومولود في يوغندا، جاء مع والديه الى الولايات المتحدة وعمره سبع سنوات، وليس مسلما فحسب، بل "يجاهر" بإسلامه، وفوق هذا كله فهو يعلن مرارا انه اشتراكي، وهذه من الكبائر في الثقافة السياسية الأمريكية، فالاشتراكية عند عموم الأمريكان رجس من عمل السوفييت، وهكذا ركزت الماكينة الإعلامية الضخمة للحزب الجمهوري بقيادة رأس الدولة دونالد ترامب، نيرانا كثيفة على ممداني لكونه يجمع بين الإسلام والاشتراكية، "وهما مصدرا خطر على أسلوب الحياة الأمريكي"، ثم فعل ممداني أمرا لم يسبقه عليه مرشح لمنصب العمودية في تاريخ البلاد، وهو الخوض مرارا وتكرارا في أمر من أمور السياسة الخارجية، وكان هذا الأمر تحديدا هو التنديد بحرب إسرائيل على غزة، واتهام إسرائيل بإبادة الفلسطينيين، والتنبيه الى أنها كيان استيطاني عدوني توسعي، مما حدا بأكثر من 1100 حاخام في نيويورك، لإصدار بيان بأن المدينة تشهد تنامي العداء للصهيونية والسامية "بدليل ان الجماهير تصفق بحماس كلما ندد ممداني بإسرائيل"، وقلق صهاينة نيويورك من كل ذلك مفهوم ومتوقع، فعدد اليهود في المدينة أكبر من عددهم في القدس المحتلة، التي اتخذها الإسرائيليون عاصمة.

إن ممداني لم يفز فقط على كومو، بل فاز أيضا على قيادة حزبه "الديمقراطي"، الذي لم يجاهر بمساندته من القياديين الكبار، سوى الرئيس الأسبق باراك أوباما، وعضو مجلس الشيوخ اليساري المستقل بيرني ساندرز، ولكن الرسالة الأبلغ من ذلك الفوز، كانت في بريد ترامب والحزب الجمهوري الحاكم..
قالت مجلة جويش كَرَنتْس (تيارات يهودية)، إن فوز ممداني في أكبر قلعة للمال واليهود في الولايات المتحدة، رافعا شعارات التعاطف مع الطبقات المسحوقة ومنددا بغطرسة القوة الإسرائيلية ، يعني أنه ظاهرة ينبغي الوقوف عندها طويلا، لأنها مؤشر على "نهاية" كون إسرائيل كيان مقدس لا يجوز المساس به ولو باللسان في الولايات المتحدة، لأن ما نجح فيه ممداني ليس فقط الحصول على المنصب المنشود، بل خلق تحالف شعبي عريض يمهد لإعادة صياغة الحزب الديمقراطي، الذي ينتمي اليه- ولم يفز بمساندته في انتخابات العمودية- بل والسياسة الأمريكية بمجملها، بحيث يصبح اليسار قوة ذات وزن، لتعذر تخويف الناخبين من المرشحين الاشتراكيين والمسلمين.

وبهذا فإن ممداني لم يفز فقط على كومو، بل فاز أيضا على قيادة حزبه "الديمقراطي"، الذي لم يجاهر بمساندته من القياديين الكبار، سوى الرئيس الأسبق باراك أوباما، وعضو مجلس الشيوخ اليساري المستقل بيرني ساندرز، ولكن الرسالة الأبلغ من ذلك الفوز، كانت في بريد ترامب والحزب الجمهوري الحاكم، فقد تزامن الفوز الكاسح لممداني، مع فوز الديمقراطيتين أبيغيل سبانبرغر، وميكي شيريل في انتخابات حاكمي ولايتي فرجينيا ونيوجيرسي على التوالي، وكان ذلك بمثابة صفعة للترامبيين الذي "خبّصوا وخربطوا" السياسات الداخلية والخارجية لبلادهم، ويتأهبون لانتخابات التجديد النصفي لعام 2026، عندما تصبح السيطرة على الكونغرس على المحك.

لم يسبق لمرشح لمنصب العمودية في نيويورك سوى ممداني وجون ليندساي (1969) الفوز بأكثر من مليون صوت من أصوات الناخبين، واعتبارا من يوم الأربعاء الخامس من الشهر الجاري، وصل اليسار الى السلطة في أكبر مدينة أمريكية، بقيادة شاب بعض آسيوي وبعض أفريقي ومسلم، يعلنها داوية أنه  مع التوزيع العادل للثورة ومن ثم ضد النظام الرأسمالي، ويناهض العنصرية وإبادة البشر.

النجاح الأكبر للمهاجر الآسيوي الأفريقي المسلم الشاب ممداني، فهو أيضا إثبات أنه يمكن هزيمة حملات الكراهية والترويع، بالأمل والتفاؤل والثقة بالنفس
ما يجعل فوز ممداني إنجازا استثنائيا، هو أنه لم ينتصر فقط على منافسه المباشر كومو، وغير المباشر ترامب، الذي أطلق تغريدات يدعو فيها الناخبين الموالين للحزب الجمهوري ان يصوتوا لصالح كومو، بل أنه نجح في إقناع الناخبين بازدراء الافتراءات بأنه "جهادي" و"قد نرى في حال فوزه تكرارا لمأساة 11/9/2001"، وما هو أهم من كل ذلك، هو أنه هزم أصحاب البلايين الذين تكأكأوا كي يهزموه، (وصف مايكل بلومبيرغ عمدة نيويورك الأسبق ممداني بأنه إرهابي). هزمهم بنجاحه في تحريك نحو مائة ألف متطوع ليقرعوا الأبواب ويطوفوا في أرجاء المدينة للترويج لبرنامجه الداعي لتجميد أجور المساكن ومجانية المواصلات العامة ورعاية الطفولة، وهزمهم بإثبات ان المواطن العادي يستطيع أن يحدث التغيير، متى ما توفرت عنده "الإرادة".

أما النجاح الأكبر للمهاجر الآسيوي الأفريقي المسلم الشاب ممداني، فهو أيضا إثبات أنه يمكن هزيمة حملات الكراهية والترويع، بالأمل والتفاؤل والثقة بالنفس، وقد لخص هو بنفسه كل ذلك بقوله في المساء الذي انتزع فيه النصر من فك القرش كومو "ها هي الشمس تغرب في مدينتنا، ولكنني أرى فجر يوم أفضل للإنسانية".

تقول إن بي آر (الإذاعة الوطنية العامة) وهي هيئة إعلامية مقرها واشنطن العاصمة، وتحظى تقاريرها باحترام واهتمام واسعين، إن أنحاء مختلفة في الولايات المتحدة بل في العالم الغربي عموما، ستشهد هزات ارتدادية للزلزال الذي أحدثه فوز ممداني، مما سيؤدي إلى انحسار المد اليميني الفاشستي في أوروبا على وجه الخصوص