مقالات مختارة

إبادة مع وقف التنفيذ

الأناضول
كما كان واضحا، صراع التكتيكات ضد الاستراتيجيات بات فعَّالا وواضح المعالم: البيت الأبيض يعمل على إنقاذ الكيان من نفسه ومن الورطة التي أوصل إليها نفسه، دون أن يظهر للمقاومة أن الكيان في حالة ضعف أو تآكل. على العكس، إنه يريد أن يظهر للعالم ولحماس أنه الأقوى الآن بعد استعادة أسراه فيضغط من أجل الإسراع في انتشال جثث أسراه، هو من قتلهم ودفنهم تحت الأنقاض وداخل الأنفاق. إنهم يعملون على تحميل المقاومة ذنب ما اقترفوه هم بأنفسهم لأنفسهم.

منطق الاستقواء الغبي الذي يفضح كل يوم الصلف الذي لا يزيد إلا في كشف عورات من يخفون ما لا يخفى وما لم يعد ينطلي على أحد. إنهما يعملان كما لو أنهما يمثّلان أدوارا سخيفة غبية يعرف المشاهد كم أنها ساذجة وكاذبة وغير ذات مصداقية حتى بينهم وبين أنفسهم.

البيت الأبيض ينفخ الساخن والبارد ويتقلب من موقف إلى آخر ومن تصريح هادئ، إلى تجريح وقح، الغرض منه المزيد من الضغط على المقاومة لتقديم المزيد من التنازلات والقبول بوضع رقبتها تحت سيف دمقليس، تحت ذريعة الرؤية الصهيونية المشروخة، رغم أنها تعلم الحقيقة على الأرض وتعرف أنه من مصلحة المقاومة الإسراع بالمرور إلى المرحلة الثانية من تفاهمات شرم الشيخ وتنفيذ بنود الاتفاق بلا مواربة ولا إطالة ولا عراقيل صهيونية، التي لم يعد أحدٌ ينكرها أو يتجاهلها، بمن فيهم الإدارة الأمريكية، إلا أنها لا تستطيع أن تغيظ الذئب إرضاءً للحمل كما تراه؛ فالذئب في الرواية الأمريكية معه الحق دوما ولو كان الحمل يشرب من النهر ذاته بعكس التيار، كما تقول القصة.
المقاومة تدرك من جهتها أن الكيان لعوب ولا يمكن الوثوق به

المقاومة تدرك من جهتها أن الكيان لعوب ولا يمكن الوثوق به، إذ لا ميثاق لهم، وأن الإدارة الأمريكية ليست محايدة ولا ضامنة لعدم العودة إلى الإبادة أبدا، حتى ولو كان ذلك الاحتمال ضعيفا، وأن أوراق القوة لديها قد قدِّمت على مذبح الضغوط العربية قبل الأمريكية والصهيونية، وأن سلاحها المتبقي هو ما بقي لها التفاوض بشأنه، وأن هذا لن يكون إلا بشروطها المعروفة: السلاح مقابل دولة وسلطة فلسطينية وطنية، جامعة غير موالية للكيان ولا عميلة، كما تعمل الإدارة الأمريكية وإدارة الكيان على التخطيط له استراتيجيًّا. صراع التكتيكات المقاومة ضد الاستراتيجيات القائمة، تنطلق من هذا الباب: لا لنزع سلاح المقاومة مادام الاحتلال قائما، ولا لتسليم السلاح إلا لسلطةٍ وطنية فلسطينية. لهذا، يرفض الكيان ويرفض البيت الأبيض التحدُّث اليوم عن مستقبل غزة إلا ضمن تصوُّر تقني إنساني: إعادة الإعمار بمال الأغنياء العرب الذين يشترطون نزع سلاح حماس أوَّلا، وكأنما هذا السلاح موجَّه ضدهم!

في ظل هذه الضغوط الإقليمية والدولية، التكتيك لدى المقاومة المرحلي هو الاستعانة بضمانات أكثر قوة وفعالية: الدور التركي، نظرا للتقارب العقائدي الأيديولوجي بين المقاومة الإسلامية في غزة والتيار الحاكم في إسطنبول. دخلت تركيا، وبطلب ملحّ من حماس، كضامن في اتفاقيات شرم الشيخ، مع أن الكيان رفض ذلك سابقا، كما رفض أي دور لروسيا. غير أن ترمب اضطرَّ في الأخير إلى قبول دور تركي في الحل بما يراه حلًّا قد يقبله نتنياهو على مضض. مع ذلك، يصر الكيان على رفض أي مساهمة تركية في رفع الأنقاض بحثا عن أشلاء وجثث أسرى الكيان، إبقاء على ورقة المساومة والضغط والذرائع التي لا تنتهي، ولكن أيضا رفضًا منه لأي دور تركي، لا تريده حتى الأطراف العربية المطبِّعة.
وعليه، فالإبادة تبقى حاضرة، مع وقف التنفيذ فقط.

الشروق الجزائرية