صحافة تركية

الخوف من روسيا حكم على ألمانيا بالصمت تجاه المجازر في غزة

ألمانيا تعتبر من أشد الداعمين للاحتلال خلال العدوان على غزة- جيتي
نشرت صحيفة "ستار" التركية تقريرا تناولت فيه المأزق السياسي الذي تواجهه برلين في ظل العدوان الإسرائيلي على غزة، إذ وجدت ألمانيا نفسها بين التزاماتها التاريخية تجاه إسرائيل وضغوطها الداخلية والخارجية المتصاعدة.

وقالت الصحيفة إن التحركات العسكرية الجديدة لألمانيا، وازدياد تهديدات الطائرات المسيّرة، وقيود التظاهر في الداخل، إلى جانب القيود المفروضة على تصدير الأسلحة، جعلت من المشاركة الفاعلة في الأمم المتحدة خياراً إستراتيجيًّا لا دبلوماسيًّا فحسب. وأوضحت أن برلين تسعى للحفاظ على حضورها الدولي دون الإضرار بعلاقتها مع واشنطن أو المساس بسياستها التقليدية تجاه إسرائيل.

وأضافت الصحيفة، أن ألمانيا، التي تُعد قاطرة أوروبا الاقتصادية، التزمت الصمت حيال المأساة الإنسانية في غزة. فشعار "العقل الوطني" ومبدأ "مكافحة معاداة السامية"، المترددين في أروقة السياسة الألمانية، تداخلا مع الخوف من روسيا الذي أفرزته الحرب في أوكرانيا، ليشلّا حركة السياسة الخارجية الألمانية. هذا الموقف المتردد وضع ألمانيا ومعها الاتحاد الأوروبي في موقع متناقض حيال قيم حقوق الإنسان والقانون الدولي.

ميرز يتغيب عن الأمم المتحدة
وأوضحت الصحيفة أن زعيم الاتحاد الديمقراطي المسيحي (CDU) فريدريش ميرز لم يحضر جلسات الجمعية العامة للأمم المتحدة في ذروة أزمة غزة، مبرراً ذلك بـ"الانشغال بمناقشات الموازنة"، غير أن مراقبين رأوا هذا التبرير غير مقنع، معتبرين أن غياب ميرز كشف بوضوح التناقضات الكامنة في الموقف الألماني من الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.

وأضافت الصحيفة أن إسرائيل بالنسبة لألمانيا ليست مجرد طرف خارجي، بل مكون أساسي في هوية الدولة الحديثة المتأثرة بإرث المحرقة ومن هذا المنطلق، فإن تجنب ميرز للمنصة الأممية يعكس محاولة موازنة بين الدفاع عن حقوق الفلسطينيين وبين واجب دعم "أمن إسرائيل"، وهي معادلة محفوفة بالمخاطر السياسية والاقتصادية على حد سواء.

روسيا عامل معقد في المعادلة
ولفت تقرير الصحيفة التركية، إلى أن التهديد الروسي يزيد المشهد تعقيداً؛ فالحرب في أوكرانيا والمخاوف على الحدود الشرقية دفعت برلين إلى تعزيز تحالفها مع الناتو والولايات المتحدة، في وقت تحوّل فيه خطاب حقوق الإنسان إلى أداة تخدم مواجهة موسكو أكثر مما تعكس التزاماً مبدئياً.
الداخل الألماني بين اللوبي اليهودي وهواجس معاداة السامية

وبيّنت الصحيفة أن أحد أسباب تردد الحكومة الألمانية في اتخاذ موقف حازم من غزة هو تأثير اللوبي اليهودي القوي والذاكرة التاريخية المرتبطة بالحرب العالمية الثانية، إذ يُخشى أن يُنظر إلى أي انتقاد لإسرائيل على أنه إحياء لمشاعر معاداة السامية.

وأشار الكاتب في صحيفة فرانكفورتر ألغماينه تسايتونغ، باتريك باهنرز، إلى أن انتقاد إسرائيل يجب أن يبقى ضمن حدود لا تنزلق إلى معاداة السامية، بينما رأى ميرون مندل في صحيفة دي تسايت أن هذا الحذر لا ينبغي أن يتحول إلى تقييد لحرية التعبير. ومع ذلك، يظل الساسة الألمان مترددين في تبني مواقف أكثر وضوحاً خوفاً من تداعيات داخلية وخارجية.


إعلام ألمانيا بين الانحياز والرقابة الذاتية
وقالت الصحيفة إن قضية غزة لم تعد اختباراً للساسة الألمان فحسب، بل تحولت إلى معيار يكشف حدود حرية الصحافة واتجاهات الرأي العام. ففي هذا السياق، برزت مجموعة "آكسل شبرينغر" الإعلامية، المالكة لصحيفتي بيلد وفيلت، بوصفها أحد أبرز الفاعلين في تشكيل المزاج العام ورسم حدود النقاش حول الصراع.

وأشارت إلى أن "آكسل شبرينغر" تُدرج ضمن مبادئها المؤسسية "دعم الشعب اليهودي" و"الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود"، ما جعل مناصرتها لإسرائيل جزءاً من هويتها الإعلامية. ولذلك تتبنى صحيفتا بيلد وفيلت خطاباً يركّز على الرواية الأمنية الإسرائيلية في تناولها للأحداث في غزة.

وذكرت أن بيلد نقلت تحذيرات الأمم المتحدة بشأن خطر المجاعة في القطاع بعنوان "خطة حماس للمجاعة"، واضعةً معاناة المدنيين في مرتبة ثانوية. كما رفع الرئيس التنفيذي للمجموعة، ماتياس دوفنر، العلم الإسرائيلي فوق مبنى الشركة رغم اعتراض عدد من الموظفين، في خطوة رمزية لتأكيد الانحياز المؤسسي لإسرائيل.

وأضافت أن منصة الإعلانات التابعة للمجموعة "Yad2" تنشر عروض بيع لعقارات داخل المستوطنات المقامة في الضفة الغربية، ما أثار انتقادات من منظمات حقوقية اعتبرت ذلك "تطبيعاً مع الاحتلال".

وبحسب التقرير، فإن هذا الاصطفاف الإعلامي يضيّق هامش المناورة أمام الحكومة الألمانية، إذ تحوّلت "آكسل شبرينغر" من مؤسسة إعلامية إلى جهة تضبط الخطاب العام وتعيد إنتاج الموقف الرسمي داخل الساحة الداخلية. فكل تصريح حكومي عن غزة يُعاد تفسيره عبر هذا الفلتر الإعلامي قبل أن يصل إلى الجمهور.


تهديدات جديدة: الطائرات المسيّرة وسباق التسلح
وأوضحت الصحيفة أن صمت برلين السياسي تزامن مع تصاعد الاستعدادات العسكرية في الداخل. فقد أعلنت حكومة ميرز خطة من 80 بنداً تهدف إلى "تبسيط البيروقراطية وبناء دولة حديثة"، وهي خطوة وُصفت بأنها لا تسعى فقط إلى تحسين الكفاءة الإدارية، بل إلى تسريع اتخاذ القرارات الإستراتيجية في مجالات الدفاع والأمن.

وفي الأثناء، أثارت تقارير عن تحليق طائرات مسيّرة مجهولة فوق منشآت حيوية في شمال البلاد قلقاً واسعاً. وشملت الحوادث محطة توليد كهرباء في ولاية شلسفيغ هولشتاين وأحواض بناء السفن التابعة لشركة "تيسن كروب". ونقلت صحيفة فيلت عن مصادر أمنية أن ألمانيا تشهد مراقبة مكثفة من أسراب مسيّرات يُعتقد أنها جزء من عمليات تجسسية، ما دفع الاتحاد الأوروبي إلى مناقشة إجراءات جديدة للأمن السيبراني والجوي.

وأكد التقرير أن هذه التطورات تُظهر أن ألمانيا لم تعد تواجه فقط تهديدات تقليدية، بل باتت تحت ضغط التعامل مع حروب غير مرئية تعتمد على التكنولوجيا والطائرات المسيرة. ولهذا السبب تخطط برلين لاستثمار مليارات اليوروهات في مشاريع تطوير الطائرات بدون طيار وتقنيات القتال الحديثة.

ومن أبرز هذه المشاريع طائرة "أوروبا" القتالية غير المأهولة، التي يُتوقع أن تقوم بأولى رحلاتها عام 2027، وتُعد منعطفاً في مسار الصناعات الدفاعية الأوروبية. كما أبرمت شركة "إيرباص" اتفاقاً مع الشركة الأمريكية "كراتوس" لتزويد الجيش الألماني بطائرات مسيرة عالية الكفاءة بحلول عام 2029، في إطار مسعى برلين لتعزيز قدرتها الردعية أمام روسيا والتهديدات العالمية.

وأشار التقرير إلى أن عودة الحديث عن التجنيد الإلزامي تعكس تحوّل أولويات الأمن القومي الألماني. وفي ظل أجواء التعبئة العسكرية المتصاعدة، تصبح الإشارة إلى المأساة الإنسانية في غزة معادلة أكثر تعقيداً بالنسبة لصنّاع القرار في برلين، الذين يجدون أنفسهم بين ضغط التحالفات الخارجية وحسابات الداخل المتوترة.

حظر في الداخل... وحظر تصدير في الخارج
وقالت الصحيفة إن ازدواجية الموقف الألماني تتجلى في حظر التظاهرات المؤيدة لفلسطين في الداخل، بالتوازي مع تعليق بعض تراخيص تصدير الأسلحة إلى إسرائيل في الخارج. فقد منعت شرطة برلين خلال الأشهر الماضية مسيرات مؤيدة لغزة بذريعة "مخاطر معاداة السامية"، في حين أثار قرار الحكومة تعليق صادرات سلاح إلى تل أبيب جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية والإعلامية.

وأشارت إلى أن هذا التناقض يضع ألمانيا بين صورتين متعارضتين: دولة تُقيّد حرية التعبير من جهة، ودولة تُنتقد إسرائيلياً بسبب تجميد صفقاتها العسكرية من جهة أخرى، في محاولة للحفاظ على توازن دقيق بين الداخل والخارج، وبين إرثها التاريخي والتزاماتها السياسية الراهنة.

صعود اليمين الشعبوي
وأضاف التقرير أن صعود حزب "البديل من أجل ألمانيا" (AfD) اليميني الشعبوي يمثل بُعداً جديداً في المشهد السياسي. فقد أظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة في ولاية ساكسن أنهالت تفوق الحزب بنسبة 39 بالمئة، ما أثار قلق الحكومة الاتحادية. وقال رئيس وزراء الولاية من الحزب الديمقراطي المسيحي، راينر هازلوف: "المسألة وجودية... إما نحن أو هم"، في إشارة إلى تصاعد الاستقطاب السياسي.

ورأت الصحيفة أن هذا الصعود يحدّ من قدرة برلين على تبني مواقف واضحة في السياسة الخارجية، إذ قد يُنظر لأي دعم للفلسطينيين كتهديد لليهود الألمان، ولأي انحياز لإسرائيل كمصدر لانقسام داخلي متزايد. لذلك تعتمد الحكومة ما تصفه بـ"استراتيجية الصمت المنضبط"، تجنباً لتصعيد داخلي أو خارجي.
دبلوماسية الصمت أم خيار استراتيجي؟

وقالت الصحيفة إن التحديات الأمنية والقيود الداخلية جعلت من المشاركة الألمانية في الأمم المتحدة ضرورة استراتيجية أكثر منها خياراً دبلوماسياً. فبرلين تسعى للحفاظ على حضورها الدولي دون الإضرار بعلاقاتها مع واشنطن أو المساس بثوابتها تجاه إسرائيل.

ولفتت الصحيفة إلى أن تركيز رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في خطابه أمام الأمم المتحدة على إرث الحقبة النازية زاد من حذر ألمانيا التي ترى أن التاريخ يقيّد حركتها ويجعلها أكثر ميلاً إلى الصمت.

واختتمت الصحيفة بأن هذا الصمت لا يعكس ضعفاً أخلاقياً فحسب، بل خياراً استراتيجياً تمليه ضغوط الداخل وذاكرة الماضي وتعقيدات التحالفات الدولية.