ملفات وتقارير

بعد 80 عامًا على تأسيسها.. هل تعيد منظمة الأمم المتحدة تجربة فشل عصبة الأمم؟

يقول غوتيريش إن أعظم إنجاز للأمم المتحدة منذ عام 1945 هو منع حرب عالمية ثالثة - الأمم المتحدة
اجتماع زعماء العالم تحت سقف واحد في الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة، في نيويورك، المنظمة التي قامت بعد أن فشلت "عصبة الأمم" في منع اندلاع الحرب العالمية الثانية لتصبح المنبر الأبرز في إدارة الأزمات الدولية.

لكن بعد ثمانية عقود، وبدلاً من أن الاحتفاء بذكرى تأسيسها، ما زالت الأسئلة نفسها مطروحة، ما جدوى هذا الكيان في زمن صراعات متفجرة؟ وأين المنجزات؟ وهل انعقادها هذا العام هو مجرد رقم يضاف إلى سنوات من العجز والتهميش والتخبط؟، الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، قال بصراحة إن التحديات التي واجهها المؤسسون قبل ثمانين عاما هي نفسها التي يواجهها العالم اليوم، لكن بصورة أشد تشابكا وأكثر قسوة.



قبل ثمانين عاما، وفي عالم أحرقته الحرب، حسم القادة خيارهم، التعاون بدلا من الفوضى، القانون بدلا من انعدام القانون، السلام بدلا من الصراع، خيار أدى إلى بزوغ الأمم المتحدة، ولكن ما يجري اليوم دفع بغوتيريش للتساؤل:" ما هو العالم الذي نختار أن نبنيه معا".

فترة سقوط حر
ريتشارد غاون، المتخصص في شؤون الأمم المتحدة من منظمة "مجموعة الأزمات"، كان أكثر تشاؤما وصراحة، حيث قال خلال إحاطة إعلامية خصّ بها صحافيين معتمدين لدى الأمم المتحدة في نيويورك، إن: "أوضاع الأمم المتحدة تشهد تدهوراً من سيئ إلى أسوأ، بل أعتقد أننا في الواقع نمرّ بفترة سقوط حر"، وأضاف شارحاً: "قبل بضع سنوات، كان هناك الكثير من الحديث عن أن العالم يمرّ بأزمات متعددة الأوجه، مع ضغوط مختلفة، مثل تغير المناخ والصراعات التي تضرب الاقتصاد العالمي.

كما قال أيضا:" أعتقد أنه من العدل القول إن الأمم المتحدة الآن تمرّ بأزمات متعددة خاصة بها، حيث تواجه ضغوطاً تشمل استمرار الخلافات الجيوسياسية في مجلس الأمن، وأزمة مالية تفاقمت بشكل كبير بسبب تخفيضات الميزانية الأميركية، بالإضافة إلى تزايد الأدلة على تخلف المنظمة عن بعض مبادراتها الرئيسية، بما في ذلك أهداف التنمية المستدامة واتفاقية باريس للمناخ، بعد عشر سنوات فقط من الاتفاق عليهما".

ومع فقده للأمل، قال: "لا أعتقد أن أسبوع الاجتماعات رفيعة المستوى سيقدم لنا إجابات واضحة على جميع التحديات التي تواجهها الأمم المتحدة، ولكنه قد يمنحنا فكرة أوضح عن مدى صعوبة الوضع".

يعترف دبلوماسي غربي رفيع بأنه عندما تسير الأمور بشكل حسن، يقفز الجميع لادعاء الفضل في ذلك، ولكن عندما تسوء الأمور، ينظر الجميع إلى الجانب الآخر، لإلقاء مسؤولية المشكلة على مبعوث الأمم المتحدة.

وينقل مسؤول كبير عمل لدى الأمم المتحدة، عن المندوب الروسي الراحل فيتالي تشوركين، طرفة ذات مغزى، قال فيها: "يريد الدبلوماسيون الغربيون، لا سيما الأميركيون والبريطانيون، من أي مبعوث أممي أن يستشيرهم في كل ما يقوم به، من دون أن يحصل منهم على أي شيء، فإذا نجح في مهمته -وهذه حال نادرة- ينسبون إنجازه لهم، وإذا فشلوا في التوافق على أمر -كما يحصل في غالب الأحيان- يلقون تبعات إخفاقهم على المبعوث الأممي، كأن الأخير (مجرد كيس ملاكمة)"

التسلسل الهرمي وأسبقية الحضور
تأسست الأمم المتحدة في عام 1945 بانضمام 51 عضواً أصلياً إليها، وزاد عدد أعضائها منذ ذلك الحين إلى 193، وبالإضافة إلى الأعضاء يمكن لزعيمي دولتين من غير الأعضاء لهما صفة مراقب - الفاتيكان ودولة فلسطين- وعضو مراقب وهو الاتحاد الأوروبي التحدث خلال الاجتماعات.

وجرت العادة أن تكون البرازيل دائماً أول دولة عضو تتحدث، ويرجع السبب في ذلك، بحسب مسؤولين في الأمم المتحدة، إلى أنه في السنوات الأولى من عمر المنظمة الدولية تقدمت البرازيل للتحدث أولاً عندما كانت الدول الأخرى مترددة في القيام بذلك، وباعتبارها الدولة المضيفة لمقر الأمم المتحدة في نيويورك، فإن الولايات المتحدة هي الدولة الثانية التي تلقي كلمتها في الجمعية العامة.

ومن هنا توضع القائمة بعد ذلك على أساس التسلسل الهرمي وأسبقية الحضور، ويتحدث رؤساء الدول أولاً، يليهم نواب رؤساء الدول وأولياء العهد، ثم رؤساء الحكومات والوزراء ورؤساء الوفود الأقل رتبة.

السلام ليس سذاجة
كشفت كلمات زعماء الدول خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، عن حجم الخلافات وتباين الآراء بينهم، بل وعن عدم قناعة البعض منهم في أن تكون منصة قاعة المبنى الأممي مكانا لحل الأزمات، وتحدث آخرون بما لم يستطيعوا إيصاله عبر القنوات الدبلوماسية لبعضهم البعض.

الأمين العام أنطونيو قال إن منظمة الأمم المتحدة الأممية ليست فقط مكانا للالتقاء، لكنها بوصلة أخلاقية وقوة للسلام وحفظه وحامية للقانون الدولي ومحفز للتنمية المستدامة وشريان حياة للناس في الأزمات ومنارة لحقوق الإنسان، مؤكدا أن الخيارات التي يواجهها العالم اليوم ليست جزءا من نقاش أيدلوجي، ولكنها مسألة حياة أو موت للملايين، محذرا من تجذر سياسة الإفلات من العقاب.


كما تحدث الأمين العام عن مـيثاق المستقبل الذي وضعته الدول الأعضاء ليعكس إصرارها على بناء أمم متحدة أقوى وأكثر شمولا وفعالية، وقال إن هذا هو المنطق وراء مبادرته المعروفة باسم (الأمم المتحدة -80)، وذكر أنه قدم في إطارها عدة مقترحات منها تعديل ميزانية العام المقبل لتقليل النفقات وتحسين العمل، وإدخال إصلاحات عملية لتطبيق المهام بشكل أكثر فعالية وتأثيرا.



أما رئيسة الجمعية العامة للأمم المتحدة أنالينا بيربوك، فقد ذكـّرت بشعار هذه الدورة، وهو "معا نحو الأفضل: 80 عاما وأكثر من أجل السلام والتنمية وحقوق الإنسان"، وبرغم اعترافها بأن الارتقاء إلى مستوى هذا الشعار لن يكون سهلا، إلا أنها قالت إن هذه القاعة (الجمعية العامة) "لم تُبْنَ من أجل الأوقات السهلة، بل بُنيت كي نجتمع معا لمواجهة أصعب المواضيع".


وفي محاولة لطمأنة شعوب العالم، اختتمت بيربوك حديثها بالقول: "مثلما كنا قبل 80 عاما، نحن نقف عند مفترق طرق، والأمر متروك لنا، لكل دولة عضو، لكي نرتقي إلى مستوى القيادة الذي أظهره أسلافنا، أن نعمل عندما يكون العمل ضروريا،أن نُظهر للناس في جميع أنحاء العالم أن الأمم المتحدة موجودة اليوم وغدا وللثمانين عاما القادمة".

الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا عن ضرورة تعددية حقيقية، مؤكدا أن النظام الدولي لا يمكن أن يبقى لعبة محصلتها صفر، وأن سلطة الأمم المتحدة أصبحت على المحك، والقيم التي تأسست عليها تحت تهديد غير مسبوق.


بينما شدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على أن العالم أكبر من خمس دول في إشارة مباشرة إلى احتكار مجلس الأمن، الذي يعتبر من أبرز أجهزة منظومة الأمم المتحدة



أما الرئيس الأميركي دونالد ترامب فقلل من شأن المنظمة واعتبر أن عملها لا يتجاوز إصدار بيانات فارغة لا توقف حربا ولا تمنع نزيفا، قائلا إن الأمم المتحدة قادرة على كتابة رسالة شديدة اللهجة فقط، وهذا كلام فارغ والكلام الفارغ لا يوقف الحروب


واتهم ترمب الأمم المتحدة بعدم مساعدته في محاولة التوسط في السلام في مختلف النزاعات، وقال:" لدى الولايات المتحدة الجزرة والعصا، لذا في بعض الحالات، إذا كنت قادراً على الجمع بين الاثنين، أعتقد أنه يمكن أن تكون لدينا طريقة فعالة جداً للتأكد من أن عملية السلام يمكن أن تؤدي إلى نتيجة ناجحة على الأقل".

وتأتي اتهامات ترامب للمنظمة الأممية في وقت سجلت فيه الولايات المتحدة أكثر دولا استخداما لحق النقض الـ"فيتو"، الذي لطالما عرقل إنهاء الحروب وأوصل الحلول لطريق مسدود خاصة بشأن الصراعين في قطاع غزة وأوكرانيا.

وتعليقا على حديث ترامب، قال ريتشارد غوان، مدير مجموعة الأزمات الدولية في الأمم المتحدة، إن: ترمب يستمتع بالجمعية العامة ويستمتع أيضاً في مشاهدة اهتمام القادة الآخرين به"، وأضاف "أظن أنه يستغل ظهوره للتباهي بإنجازاته العديدة، وربما يحاول مجدداً اثبات أنه يستحق جائزة نوبل للسلام".
أمير دولة قطر الذي تعرضت بلاده لضربة إسرائيلية، قال:" تراجع منطق النظام الدولي أمام منطق القوة، يعني السماح بتسيد حكم الغاب، الموضوع الذي ينبغي أن يتصدر النقاش بالمؤسسات الدولية هو كيفية استعادة نظام الأمن الجماعي قوته وفقا لميثاق الأمم المتحدة، وعودة الفاعلية للشرعية الدولية".


المفهوم الأساسي للأمم المتحدة على وشك الإلغاء
صحيفة الغارديان، أكدت في تقرير لها تأثير عم التزام أمريكا والكثير من الدول تجاه منظمة الأمم المتحدة، التي لطالما عانت ووكالاتها من نقص التمويل. والآن، تتحول هذه المشكلة المتجذرة إلى أزمة حادة في ظل قطع التمويل من قبل الولايات المتحدة، باعتبارها أكبر مساهم في ميزانيتها بنسبة 22 بالمئة، حيث أثّر إلغاء ترامب للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، وإلغاء معظم برامج المساعدات، على العمليات الإنسانية التي تقودها الأمم المتحدة وتدعمها، والتي تعتمد على التمويل التقديري. ومع ذلك، فإن قرار ترامب يؤثر بشدة على النظام الدولي القائم على القواعد. كما أن المفهوم الأساسي للمسؤولية الجماعية عن الحفاظ على السلام والأمن العالميين، والتعاون في معالجة المشاكل المشتركة - الذي تجسده الأمم المتحدة منذ إنشائها قبل 80 عامًا - على وشك الإلغاء.

ومع أن الولايات المتحدة قد لا تنسحب كليا من الأمم المتحدة، لكن اقتراح ترامب لميزانية عام 2026 سيخفض إجمالي الإنفاق الدولي بنسبة 83.7 بالمئة، أي من 58.7 بالمئة مليار دولار إلى 9.6 بالمئة مليار دولار. ويشمل هذا التخفيض الأمم المتحدة بنسبة 87 بالمئة.

وأشار ستيوارت باتريك من مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي إلى أنه "في عام 2023، بلغ إجمالي الإنفاق الأمريكي على الأمم المتحدة حوالي 13 مليار دولار. وهذا يعادل 1.6بالمئة فقط من ميزانية البنتاغون في ذلك العام (816 مليار دولار) - أو حوالي ثلثي ما ينفقه الأمريكيون على الآيس كريم سنويًا".

وسيتم تقليص مساعدات التنمية الاقتصادية، والإغاثة من الكوارث، وبرامج تنظيم الأسرة.
ومن المحتمل أن يُغيّر هذا التأثير وجه العالم؛ حيث تشمل وكالات الأمم المتحدة الرئيسية المُعرّضة للخطر صندوق الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) - في وقتٍ تُصبح فيه المخاطر التي تُواجه الرضّع والأطفال مُرعبة؛ وبرنامج الأغذية العالمي، الذي قد يُفقد 30 بالمئة من موظفيه؛ والوكالات المعنية بشؤون اللاجئين والهجرة، والتي تتقلص هي الأخرى؛ ومحكمة العدل الدولية (المعروفة باسم "المحكمة العالمية")، التي سلّطت الضوء على أفعال إسرائيل غير القانونية في غزة؛ والوكالة الدولية للطاقة الذرية.

إن المخاطر كبيرة، وواشنطن ليست وحدها المتضرر. فمثل الولايات المتحدة، تتخلف حوالي 40 دولة عن سداد اشتراكاتها السنوية الإلزامية. والتبرعات التقديرية آخذة في الانخفاض. وقد تم تقويض ميثاق الأمم المتحدة، وهو بيان المبادئ التأسيسية، بشكل خطير بسبب الفشل في وقف الحرب في غزة والحرب الروسية-الأوكرانية، والهجوم الأمريكي الإسرائيلي على إيران الشهر الماضي.

وهناك دول، بما فيها بريطانيا، تتجاهل القانون الدولي في بعض الأحيان، مما يطيل من أمد النزاعات. كما يتم تهميش دور مبعوثي الأمم المتحدة والاستهزاء ببعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وفي كثير من الأحيان يشل مجلس الأمن قرارات الأمم المتحدة بواسطة حق النقض (الفيتو)، وتبدو الأمم المتحدة عاجزة.


يقول غوتيريش إن أعظم إنجاز للأمم المتحدة منذ عام 1945 هو منع حرب عالمية ثالثة. ومع ذلك، يعتقد محللون مرموقون، مثل فيونا هيل، أنها قد بدأت بالفعل، وإذا ما فشلت الأمم المتحدة وتم التضييق على كوادرها فلن يكون هناك منظمة تحل محلها. وسيسود قانون الغاب كما نرى في غزة وأماكن أخرى؛ حيث يتم قتل عمال الإغاثة وانتهاك المعايير القانونية. وعالم دون الأمم المتحدة سيكون، بالنسبة لمعظم الناس في معظم الأماكن، أكثر خطورةً، وأكثر جوعًا، وفقرًا، وأقل صحةً، وأقل استدامة.

وهنا في قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة، تتعدد الخطابات وتختلف الرؤى، لكن المشهد يعكس بوضوح لحظة فارقة بعد ثمانين عاما من التأسيس، والمنظمة ما زالت في قلب النقاش الدولي حول دورها ومكانتها ومستقبلها، فهل ستبقى المنظمة أداة سلام، أم ستتحول إلى ذكرى أخرى في أرشيف الفشل الدولي وتلقى مصير عصبة الأمم.