مقالات مختارة

العراق: معضلة الرئاسات الثلاث!

يحيى الكبيسي
الأناضول
الأناضول
شارك الخبر
يشكل العراق نموذجا فريدا فيما يتعلق بالعلاقة بين الانتخابات ومخرجات هذه الانتخابات، تحديدا تسمية الرئاسات الثلاث؛ رئيس مجلس النواب، ورئيس الجمهورية، ورئيس مجلس الوزراء.

فبعد احتلال العراق، عمد الأمريكيون إلى توزيع السلطة على أساس هوياتي، اعتمادا على تصوراتهم للتقدير الديمغرافي الهوياتي للمجتمع العراقي؛ رئاسة الجمهورية للسنة، ورئاسة مجلس الوزراء للشيعة، ورئاسة مجلس النواب للكرد. وبقي هذا التوزيع قائما بعد انتخابات الجمعية الوطنية في بداية عام 2005 (باستثناء تدوير منصبي رئيس الجمهورية ليكون للكرد، ورئاسة مجلس النواب لتكون للسنة، وكان العامل الرئيسي في هذا التدوير مقاطعة السنة العرب شبه الشاملة لهذه الانتخابات) ثم تكرس هذا التوزيع بعد انتخابات مجلس النواب العراقي في كانون الاول 2005 والتي أعقبت الاستفتاء على الدستور العراقي، حين تنازل الحزب الإسلامي (الذي شكّل العمود الفقري للتمثيل السني في جبهة التوافق) عن هذا المنصب لصالح جلال الطالباني وذلك من خلال صفقة لم تعرف تفاصيلها حتى اليوم!

فقد كانت هناك حاجة كردية داخلية لفك الاشتباك بين الزعيمين التاريخيين الكرديين: السيد مسعود البارزاني والسيد جلال الطالباني، وبالتالي ضرورة أن يكون أحدهما في بغداد، فيما يتولى الآخر منصب رئيس إقليم كردستان، وهو المنصب الذي استحدث في العام نفسه، إذ لم يكن هذا المنصب مطروحا خلال 12 عاما من الإدارة الذاتية للإقليم (1992 ـ 2005) بسبب طبيعة الصراع الداخلي بين الحزبين الكرديين الرئيسيين؛ الحزب الديمقراطي الكردستاني، والاتحاد الوطني الكردستاني.

لكن هذا الاتفاق بدأ بالتصدع بعد وفاة جلال الطالباني عام 2017، ليبرز صراع جديد بين الحزبين الكرديين على هذا المنصب بعد انتخابات 2018، خاصة مع التحولات في علاقات القوة بين الحزبين على مستوى التمثيل السياسي في بغداد وتراجع عدد مقاعد الاتحاد الوطني الكردستاني في مجلس النواب العراقي. ثم عاد هذا الصراع مرة أخرى عام 2021، قبل أن تتدخل المحكمة الاتحادية بقرار مسيس باستبعاد مرشح الحزب الديمقراطي الكردستاني لمنصب رئيس الجمهورية، وهو السيد هوشيار زيباري، وانتهي الأمر بتسوية أتاحت لمرشح «مستقل» شكلا، ومحسوب على الاتحاد الوطني تاريخيا وعمليا، أن يتولى منصب رئيس الجمهورية. وقد أتاح هذا الصراع للفاعل السياسي الشيعي، ومن خلفه الإيرانيون، لأول مرة، أن يكونا الفاعلين الرئيسيين في قرار ترشيح رئيس الجمهورية!

أما بالنسبة لمنصب رئيس مجلس النواب، فقد كان هو الآخر عرضة لتحولات كبيرة بسبب التغيير في علاقات القوة. فبعد انتخابات عامي 2005 و 2010، كان قرار من يشغل هذا المنصب قرارا سنيا بالدرجة الأولى، وكان تدخل الفاعل السياسي الشيعي في حدوده الدنيا، لكن الأمر تغير تماما بعد عام 2014، وأصبح قرار من يكون رئيسا لمجلس النواب قرارا يحتكره الإيرانيون والفاعل السياسي الشيعي فقط، مهما كانت نتائج الانتخابات، وهذا الاحتكار الذي أوصل سليم الجبوري ومحمد الحلبوسي ومحمود المشهداني إلى هذا الموقع.

فضلا عن قدرة الفاعل السياسي الشيعي على الإطاحة بأي رئيس مجلس نواب يفكر خارج «اشتراطاته» (يتيح قانون لثلث أعضاء مجلس النواب تقديم طلب مسبب لإقالة رئيس المجلس، ومن ثم إقالته بالأغلبية المطلقة لعدد الأعضاء، كما جرى مع سليم الجبوري الذي أقيل من منصبه عام 2016، أو ما جرى مع الحلبوسي الذي طرد من منصبه بقرار مسيس من المحكمة الاتحادية عام 2023) وقد أفرغ هذا المنصب تماما من أي دور سياسي حقيقي، في مقابل تحويله إلى أداة للاستثمار الشخصي في المال العام، ولصناعة جمهور زبائني، في سياق ما أطلقنا عليه سياسة الإخصاء الرمزي مقابل الاستثمار في المال العام.

أما منصب رئيس مجلس الوزراء، فقد قوض قرار المحكمة الاتحادية المسيس المتعلق بتفسير المادة 76 من الدستور، أي إمكانية للحزب أو التحالف الفائز بالانتخابات، بتسمية رئيس مجلس الوزراء، وهو ما جعل هذا المنصب خاضعا للاتفاقات السياسية. وبالتالي لم تعد هناك أي علاقة بين نتائج الانتخابات، ومن يتولى هذا المنصب. وكانت المفارقة هنا أن رئيس مجلس الوزراء الأسبق نوري المالكي الذي كان خلف إصدار هذا التفسير المسيس، كان أول المتضررين منه، حين مُنع من تولي هذا المنصب عام 2014 مع أنه كان الفائز الأول في تلك الانتخابات.

وبعيدا عن الدستور والانتخابات ونتائجها، فإن ثمة أطرافا ثلاثة تتحكم في هذا المنصب وتوجه من يتولاه، وهم إيران والولايات المتحدة الأمريكية ومرجعية النجف؛ ففي عام 2005 كان المرجع الشيعي الأعلى السيد علي السيستاني وراء إجبار ابراهيم الجعفري على التخلي عن ترشيحه لهذا المنصب. وفي عام 2010 دعم الأمريكيون والإيرانيون، على السواء، المالكي لولاية ثانية، وفي العام 2014 منع فيتو السيد السيستاني المالكي من الولاية الثالثة رغم الرغبة الإيرانية في استمراره. وفي عام 2018 تكشف الصراع الأمريكي الإيراني حول من يتولى هذا المنصب، وفي النهاية تمكنت إيران، وبدعم من مرجعية النجف، من فرض مرشحها بالضد من الرغبة الأمريكية، لكن حركة الاحتجاج الواسعة في الجغرافيا الشيعية (بدأت في نهاية العام 2019) اضطرّت رئيس مجلس الوزراء عادل عبد المهدي الى الاستقالة، وأجبرت الإيرانيين والنجف على ترشيح السيد مصطفى الكاظمي بسبب وجود قناة تواصل بينه وبين الأمريكيين.

اليوم يتكرر المشهد نفسه، فبعد التغيير الجذري الذي حدث في سوريا، والضربة الكبيرة التي تعرض لها حزب الله في لبنان، وحرب الـ12 على إيران ونتائجها القاسية، تحاول إيران إدارة علاقاتها مع الولايات المتحدة في العراق بطريقة لا تستفز الأمريكيين، لاسيما بعد التحول الذي حدث في الموقف الأمريكي تجاه وكلاء إيران في العراق. لهذا فإن إيران حريصة على ترشيح رئيس مجلس وزراء لديه قناة تواصل مع الأمريكيين، بل ولديه علاقة جيدة معهم، وهي لا تمانع في أن يقبل الأخير بالشروط الامريكية فيما يتعلق بالميليشيات ودورها وتمويلها، في مقابل قبول الأمريكان بالعودة إلى تقاسم النفوذ الإيراني الأمريكي في العراق كما كان عليه الأمر بين عامي 2003 و 2016، أي قبل مجيء ترامب وموقفه من الاتفاق النووي، ثم العقوبات على إيران.

إن طبيعة الانتخابات الزبائنية التي يحكمها الاستثمار في المال العام، وتتلاعب عوامل خارجية وداخلية بنتائجها ومخرجاتها، وتتحكم بتسمية رئيس مجلس الوزراء بعد ذلك، ويتحكم فيها الفاعل السياسي الشيعي بتسمية رئيس مجلس النواب السني ورئيس الجمهورية الكردي، لا تتيح مطلقا انتاج ديمقراطية حقيقية أو تقاسم سطة حقيقي، بل تنتج ديمقراطية هجينة تتيح لهذا النظام الكليبتوقراطي (اللصوصي)/ الزبائني القائم، الاستمرار في انتاج نفسه، لكنها لن تحصّنه من الارتطام الحتمي الذي يواجهه مع أي تغير في علاقات القوة، أو أي أزمة اقتصادية بسبب انخفاض أسعار النفط، أو أي متغير خارجي غير محسوب!

القدس العربي
التعليقات (0)

خبر عاجل