تُشكل اجتماعات الجمعية العامة للأمم
المتحدة فرصة يلتقي بها زعماء العالم للتباحث ولفتح قنوات دبلوماسية واقتصادية.
لكن بالنسبة لسورية فهذه الفرضة تبدو مضاعفة
أكثر، ليس من أجل التباحث حول كثير من الملفات التي تخص
سورية، ولا من أجل إبرام
اتفاق اقتصادي مع هذه الدولة أو تلك، ولولايس من أجل إجراء تفاهمات سياسية فحسب،
بل الأهم من أجل الحصول على الشرعية، شرعية الرئيس السوري أحمد الشرع ذاته، وهي
شرعية ستُعبد الطريق أمام مضي سورية كبلد نحو التعافي الاقتصادي والأمني في هذه
المرحلة، أما التعافي السياسي (الديمقراطية، المواطنة، الليبرالية الاجتماعية
والمدنية والسياسية) فهذا يحتاج إلى وقت طويل وإلى ضغوط اجتماعية على السلطة.
دلالة اللقاءات
اللقاءات العديدة التي أجراها الشرع مع
مسؤولين عالميين، وفي مقدمتهم الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وملك إسبانيا، ورئيسة
وزراء إيطاليا، ورئيس التشيك، والرئيس الفرنسي، وغيرهم، تعتبر بلغة السياسة
اعترافا أمميا بحكم الشرع لسورية ـ وفق معايير السياسة الدولية طبعا ـ وإقرارا
دوليا بضرورة منح سورية كافة شروط التعافي والعودة إلى المجتمع الدولي.
من الواضح أن ثمة تنازلات سورية حصلت بين كواليس لقاءات الأمم المتحدة هي التي دفعت ترامب إلى الانتقال لمرحلة جديدة حيال التعاطي مع سورية، وهذه التنازلات متعلقة بطبيعة الأمر بالعلاقة مع إسرائيل، أي طبيعة الاتفاق الذي أطلق عليه اتفاق "خفض التصعيد" بين سورية وإسرائيل، لكنه في حقيقة الأمر يحمل تبعات وتنازلات من قبل الجانب السوري لم تظهر حتى الآن.
وفقا لذلك، يمكن القول بكل حزم إن لقاءات
الشرع مع المسؤولين الأممين هي الخطة الكبرى الأهم، وليس كلمته التي جاءت عامة
وفضفاضة كما عودنا في تصريحاته دائما، حيث يتحدث بالعموم ولا يدخل في التفاصيل إلا
إذا اضطر إلى ذلك، ومن هنا كانت كلمته على منبر الجمعية العامة مجرد توصيف لحال
سورية وانتقالها من مرحلة الظلمات في عهد الأسدين إلى مرحلة "النور"،
فضلا عن التطمينات العامة للداخل السوري وللخارج الإقليمي (إسرائيل) والدولي
(الولايات المتحدة) وبعض الدول الأوروبية.
تتضح أهمية لقاءات الشرع على هامش اجتماعات
الجمعية العامة للأمم المتحدة في تصريحات المسؤولين الأميركيين والأوروبيين، من خل
ما أعلنه الرئيس الأميركي دونالد ترامب من أنه سيصدر إعلان هاما يتعلق بسورية، وهو
بطبيعة الحال إعلان مرتبط مباشرة بالعقوبات الاقتصادية الأميركية على سورية، وفي
مقدمتها "قانون قيصر"، كما يتضح ذلك من تصريحات المبعوث الأميركي إلى
سورية توم براك حين قال إن الفدرالية ليست
حلا مناسبا لسورية، وهي رسالة شديدة الوضوح لكل من "قوات سورية الديمقراطية"
ولتيار شيخ عقل الدروز حكمت الهجري اللذان يطالبان بفدرالية كحد أقصى لدى
"قوات سورية الديمقراطية" وكحد أدنى لدى الهجري الذي وصل به الأمر إلى
المطالبة بالانفصال الكامل عن سورية وتأسيس دولة جديدة ذات هوية درزية.
كما تتضح أهمية لقاءات الشرع ما صرح به بعض
المسؤولين الأوروبيين من ضرورة دعم الحكم الجديد في سورية والرغبة الأوروبية في
استقرار سورية ورفض أي محاولات للخروج عن الحكم الجديد تحت أي شكل.
غير أن هذا الرضى الغربي بشكل عام والأميركي
بشكل خاص لم يكن مجانا، وهل في عالم السياسة ما هو مجاني يقوم على النوايا الحسنة
والأخلاق؟
من الواضح أن ثمة تنازلات سورية حصلت بين
كواليس لقاءات
الأمم المتحدة هي التي دفعت ترامب إلى الانتقال لمرحلة جديدة حيال
التعاطي مع سورية، وهذه التنازلات متعلقة بطبيعة الأمر بالعلاقة مع إسرائيل، أي
طبيعة الاتفاق الذي أطلق عليه اتفاق "خفض التصعيد" بين سورية وإسرائيل،
لكنه في حقيقة الأمر يحمل تبعات وتنازلات من قبل الجانب السوري لم تظهر حتى الآن.
بين الخارج والداخل
شكل حضور الرئيس السوري في الأمم المتحدة
تتويجا لمسار دبلوماسي اعتمد العقلانية السياسية والبراغماتية القائمة على خطاب
سياسي مهادن موجه للخارج، يجعل من سورية جزءا من الحل في المنطقة وليست جزءا من
المشكلة.
لكن هذه اللغة بدت مفقودة في الداخل السوري
لأسباب عديدة لا يمكن حصرها، هل هي ناجمة عن رعونة سياسية وقلة خبرة في بناء
المجتمعات والدول؟ أم أن بسبب وجود تيار إسلامي متشدد داخل عباءة الحكم الجديد في
سورية ما يزال يُلقي بظلاله على الاحداث كما جرى في الساحل في مارس الماضي وما جرى
في السويداء في يوليو الماضي، أو ربما ناجم عن تخطيط مسبق بضرورة الإمساك بالسلطة
تحت عنوان إسلامي "ولاية التغلب"؟
في الحقيقة، يصعب اختيار جواب واحد لهذه
الأسئلة، وربما تكون جميعها صحيحة أو بعضها، لكن المهم أن آلية التفكير والممارسات
على الأرض ما تزال بعيدة عن تحقيق نقلة ذات دلالة في الداخل السوري.
لا الإعلان الدستوري، ولا آلية اختيار مجلس
الشعب، ولا تشكيلة الحكومة، ولا الممارسات السياسية الداخلية، تشير إلى أن
التشاركية والتوافقية الاجتماعية ـ السياسية متوافرة، على الرغم من محاولة الشرع
والحكومة تقديم خطاب منفتح.
وما زالت إلى الآن مشكلة إيجاد حل لملف
السويداء و"قوات سورية الديمقراطية" مرتبطة بالتفاهمات مع الخارج
الإقليمي ـ الدولي، وليست ناجمة عن حوارات ومفاوضات داخلية ـ داخلية، وهذا يعني أن
"إدارة" الشرع تنظر إلى الحكم أو السلطة من منظار أحادي الجانب قائم على
فكرة الامتلاك وليس على فكرة التشارك.
اللقاءات العديدة التي أجراها الشرع مع مسؤولين عالميين، وفي مقدمتهم الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وملك إسبانيا، ورئيسة وزراء إيطاليا، ورئيس التشيك، والرئيس الفرنسي، وغيرهم، تعتبر بلغة السياسة اعترافا أمميا بحكم الشرع لسورية ـ وفق معايير السياسة الدولية طبعا ـ وإقرارا دوليا بضرورة منح سورية كافة شروط التعافي والعودة إلى المجتمع الدولي.
ربما تكون النجاحات الدبلوماسية في الأمم
المتحدة فرصة لتركيز الجهود على الداخل السوري وإعادة ترتيب البنية السياسية
القانونية، لكن لا يبدو لكاتب هذه السطور أن هذا الأمر ضمن المُفكر فيه لدى الشرع
وجماعته، وأقصى ما يمكن أن يقوموا به هو إجراء بعض التغييرات في الهيكلة السياسية
على حد قول توماس براك الذي قال لشبكة "روداو" إن الحكومة الحالية في
سورية تعمل دمج مختلف الفصائل والأقليات بطريقة آمنة وسليمة.
وإذ كانت هذه الخطوات تحقق نوعا من
الستاتيكو السياسي والعسكري في سورية، إلا أنها ما تزال بعيد عن تحقيق الأهداف
المطلوبة لنقل سورية إلى مرحلة الحداثة السياسية المتمثلة في الديمقراطية
الليبرالية القائمة على المواطنة بغض النظر عن الانتماءات الأقوامية الضيقة، ودون
تحقيق ذلك، ستبقى مشكلة الأقلية والأكثرية والريف والمدينة قائمة مهما حقق السلطة
إنجازات اقتصادية.