قضايا وآراء

عن "حرية تنقل المرأة.. والرجل" في الجزائر!

تفجر جدل كبير في الجزائر بعد إعلان السلطات الجزائرية رسميًا رفع تحفظها عن الفقرة الرابعة من المادة 15 من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)..
تفجر جدل كبير في الجزائر بعد إعلان السلطات الجزائرية رسميًا رفع تحفظها عن الفقرة الرابعة من المادة 15 من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، والمتعلقة بحرية التنقل واختيار محل السكن والإقامة. وذلك بعد ما يقارب ثلاثة عقود من المصادقة عليها بتحفظات عديدة.

وجاء القرار بموجب المرسوم الرئاسي رقم 25-218 المؤرخ في الرابع من أغسطس 2025، والمنشور في العدد الأخير من الجريدة الرسمية. وبذلك لم تعد الجزائر تتحفظ على البند الذي يمنح المرأة حقوقًا متساوية مع الرجل فيما يتعلق بحرية التنقل واختيار محل السكن والإقامة.

بدا لافتا أن بعد مرور نحو أسبوعين من نشر القرار توالت ردود الأفعال، التي أشعلت مواقع التواصل بشكل خاص، التي عجت بالتعليقات وسط تباين القراءات السياسية لهذا القرار، بين التساؤلات عن التوقيت وفرضيات الإلهاء وتحويل الانظار والتجاذبات، بل التخندقات الأيديولوجية المتوقعة وربما المرغوبة والمقصودة! خاصة أن ذلك تزامن مع تداعيات فاجعة سقوط حافلة في وداي الحراش بالعاصمة الجزائرية، والتي خلفت 19 قتيلا و24 جريحا، وهزت الجزائر بشكل كبير مع اتهامات وتحميل مسؤوليات للسلطات بسبب تقادم الحافلات وسياسة منع استيرادها واستيراد قطع الغيار وفي مقدمها عجلات المركبات، التي أصبح الجزائريون يتنقلون إلى تونس لاقتنائها!

الكثير من الجزائريين ممنوعون عمليا من حرية التنقل في بلادهم (كما حدث أثناء الحراك الشعبي) ومغادرتها، وحتى الدخول لها (بدون تداعيات)، وغالبيتهم من الرجال بسبب آرائهم أو معارضتهم السلمية للسلطة. وبالتالي فإن موضوع "حرية التنقل والإقامة في الجزائر"، مطروح فعليا وبحدة في الواقع بالنسبة للرجال أكثر من النساء.
كما أن ذلك تزامن، حينها، مع غياب مثير للتساؤلات للرئيس عبد المجيد تبون بدون معلومات أو توضيحات رسمية، ماعدا مواقع خاصة بدا أنه كُلفت بمهمة الرد على ما أسمتها أكاذيب بصورة مفبركة بالذكاء الاصطناعي، عن وجود الرئيس تبون خارج الجزائر، وبألمانيا بالضبط للسياحة والعلاج، وأكدت أن الرئيس موجود في الجزائر ويتابع كل صغيرة وكبيرة عن فاجعة الحافلة وأعطى تعليمات. لكن هذه الردود والتبريرات زادت الأسئلة أكثر مما قدمت إجابات، وبينها لو كان الرئيس موجودا في البلاد، لماذا لم يظهر أو يعود المصابين مثلا في المستشفى، مثلما فعل سابقا في حادثة حرائق الغابات مثلا قبل أربع سنوات، وناب عنه في ذلك مدير ديوانه ووزراء وحتى رئيس أركان الجيش.

بعد احتدام الجدل حول موضوع رفع التحفظ عن الفقرة الرابعة من المادة 15 من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، بدا أنه تم تكليف وكالة الأنباء الجزائرية، التي تعبر عن الخط الرسمي للدولة، بالرد حيت قدمت توضيحات نقلا عن مصادر رسمية، أكدت أن ما جرى ليس إلا إجراءً تقنيا، لن يلزم البلاد بأي تغيير في قوانينها الداخلية، وعلى رأسها قانون الأسرة.

وأكدت أن التحفظ الذي تم رفعه يعود إلى سنة 1996 حين تحفظت الجزائر على عدد من بنود الاتفاقية بسبب تعارضها مع قوانين الأسرة والجنسية، وأن هذا التحفظ فقد مبرره بعد إلغاء المادة 37 من قانون الأسرة سنة 2005، وهي المادة التي كانت الأساس القانوني للتحفظ.

وتحدثت الوكالة كعادتها عن "الجهات الخارجية المغرضة"، وشددت على أن الجزائر لم تغير قوانينها تحت ضغط خارجي، بل إن التشريع الداخلي هو الذي سبق التعديل، ومن ثم جاء رفع التحفظ كإجراء تقني بحت، مضيفة أن إبقاء التحفظ كان يضر بصورة الجزائر دوليا ويُستغل للترويج بأنها تكرس التمييز ضد المرأة، في حين أن القانون الوطني لا يفرض قيودا على حقها في السكن أو التنقل.

رد الوكالة زاد بدوره الأسئلة أكثر مما قدم إجابات، وفي مقدمها إذا كان الأمر تقنيا بحتا فقد مبرره في 2005، لماذا اتُخذ قرار رفع التحفظ الآن فقط في 2025، أي بعد عشرين عاما ليثير كل هذا الجدل والانقسام المجتمعي والإيديولوجي المتوقع، وإن فيه ما فيه ـ في اعتقادي ـ من نفاق اجتماعي وتموقعات سياسية وأيديولوجية استعراضية سواء من المحسوبين على التيار الذي يسمى نفسه حداثيا وديمقراطيا، الذين ترافقوا، وأصبحوا "رفاقا" مع "فرقائهم" من المحسوبين على التيار الإسلامي وفي محطات حاسمة في "تحالف واحد" مع النظام ومن أجل استمراريته!

الغريب أن كثيرا من المحسوبين على التيار الإسلامي، الذي يقدم نفسه "حارسا للقيم والفضيلة"، "تشجعوا" رفعوا صوتهم عاليا ضد رفع التحفظ على حرية تنقل وإقامة المرأة، مع أن الواقع الجزائري المعاش يقول إن هذا هو المعمول به داخل الجزائر، وحتى خارجها، ويمكن أن نذكر هنا أن قيادات من هذا التيار لا إشكال لهم، بل يشجعون بناتهم على التنقل للدراسة والعمل داخل البلاد وحتى خارجها، ولا نذيع سرا لو قلنا هنا أن واحدا من أبرز هؤلاء أرسل ابنته للدراسة في إحدى بلدان الغرب (المتآمر)!

بينما في المقابل صمت هؤلاء "وغابت شجاعتهم" في التنديد بسجن ومتابعة وقمع نساء ومنعهن من التنقل في بلادهن أومغادرتها، في ما تسمى "الجزائر الجديدة المنتصرة"، بسبب تعبير عن رأي سلمي على مواقع التواصل أو نشاط سلمي في الحراك الشعبي، حيث لا تزال تقبع في السجن 4 سجينات رأي على الأقل، آخرهن الناشطة عبلة قماري، التي حكم عليها بداية هذا العام بالحبس النافذ لمدة عامين وعام حبس غير نافذ، بسبب نشاطها السلمي على فيسبوك!

لا تزال تقبع في السجن 4 سجينات رأي على الأقل، آخرهن الناشطة عبلة قماري، التي حكم عليها بداية هذا العام بالحبس النافذ لمدة عامين وعام حبس غير نافذ، بسبب نشاطها السلمي على فيسبوك!
بدا واضحا من البداية أن أكثر الأصوات ارتفاعا لانتقاد قرار رفع التحفظ عن مادة حرية تنقل وإقامة المرأة، هم المحسوبون على التيار الإسلامي، وكانت حركة مجتمع السلم "حمس" (المحسوبة على الإخوان المسلمين) الممثلة في البرلمان، أول هذه الأصوات وأكثرها ارتفاعا بإصدار بيان ناقد لقرار التحفظ، الذي تؤكد وكالة الأنباء الجزائرية أنه فقد مبرره بعد إلغاء المادة 37 من قانون الأسرة سنة 2005، أي في نفس السنة، التي كانت "حمس" نفسها ضمن التحالف الحكومي الحاكم في البلاد!

رئيس حركة مجتمع السلم السابق عبد الرزاق مقري ذهب، من جهته أبعد من ذلك، واعتبر قرار رفع التحفظ عن مادة "حرية تنقل وإقامة المرأة"، جزءا من “حرب غربية استعمارية على الأسرة في العالم الإسلامي”، بينما في المقابل فإن زعيمة هذا الغرب المتآمر أمريكا نفسها رفضت التصديق على الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)!

المفارقة بالنسبة لي في موضوع حرية التنقل أن مقري نفسه كان اشتكى، قبل نحو عامين، من منعه من مغادرة الجزائر بقرار سياسي، وليس قضائيا، وقبل أن يحل المشكل، بطريقة لم يعلن عنها مع الجهات النافدة نفسها في السلطة، التي منعته من مغادرة التراب الوطني. وقد عاود مقري أسفاره، بينما يتواصل منع الكثير من الجزائريين والجزائريات من مغادرة البلاد، وحتى من دخولها مثلما حدث مؤخرا مع الصحافي فريد عليلات ونصيرة ديتور، رئيسة جمعية عائلات المختفين قسريا، والكثير من الجزائريين الذين يخشون من العودة إلى بلادهم خشية اعتقالهم بسبب معارضتهم السلمية للسلطة، وهناك الكثير من مثل هذه الحالات.

وفي هذا السياق كان الصحافي الجزائري رؤوف حرز الله، الذي منع من مغادرة البلاد ـ قبل أن يتمكن بطريقته من الهروب منها بسبب توفره على جواز أجنبي آخر إلى جانب الجزائري ـ كان كشف أن وزير الإعلام الجزائري، أبلغه لما اشتكى له من منعه من مغادرة الجزائر، بأن لا يقلق "لأن 40 بالمائة من الجزائريين ممنوعون من مغادرة البلاد"!

ومهما كانت دقة هذا الرقم فإن الأكيد أن الكثير من الجزائريين ممنوعون عمليا من حرية التنقل في بلادهم (كما حدث أثناء الحراك الشعبي) ومغادرتها، وحتى الدخول لها (بدون تداعيات)، وغالبيتهم من الرجال بسبب آرائهم أو معارضتهم السلمية للسلطة. وبالتالي فإن موضوع "حرية التنقل والإقامة في الجزائر"، مطروح فعليا وبحدة في الواقع بالنسبة للرجال أكثر من النساء.

ويبدو لي غريبا هنا ألا ترتفع أصوات المستنفرين، خاصة من التيار الإسلامي للتنديد به، وهناك مثال صارخ هنا، وهو علي بلحاج، أحد أبرز وجوه هذا التيار الإسلامي نفسه، الموضوع تحت رقابة منزلية، وممنوع حتى من حرية التنقل في حيه، فما بالك بمدينته (العاصمة) وكامل الجزائر، وحضور الجنائز للتعزية، والأفراح للتهنئة، بل وحتى من الصلاة في المسجد!

*كاتب جزائري مقيم في لندن