تشهد العلاقات التركية
الإسرائيلية منذ عقود سياسات مختلفة بين فترات من التعاون الوثيق وأخرى من القطيعة والتوترات.
وبالتزامن مع تزايد السجال الأخير بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس وزراء الاحتلال بنيامين
نتنياهو، عادت الأنظار إلى تاريخ العلاقات المتناقض بين البلدين، حيث تتعقد المسارات الأمنية والاقتصادية إلى جانب الرمزية الدينية والسياسية التي تجعل من القدس وغزة مسببات دائمة للتوتر.
أولى محطات العلاقة
اعترفت
تركيا بإسرائيل في آذار/مارس 1949، لتصبح أول دولة بأغلبية مسلمة تقدم على هذه الخطوة بعد أقل من عام على إعلان قيام دولة الاحتلال، وفي السابع من كانون الثاني/يناير 1950 افتتحت
أنقرة بعثتها الدبلوماسية في تل أبيب، وقدم السفير التركي سيف الله إيسين أوراق اعتماده للرئيس الإسرائيلي آنذاك حاييم وايزمان، حيث أسس الإعتراف المبكر لعلاقة عميقة بين الدولتين.
واصلت أنقرة خلال الخمسينيات والستينيات، سياستها المحايدة، ولم تقطع العلاقات الدبلوماسية مع دولة الاحتلال خلال تلك الفترة، على الرغم من الضغوط العربية والإسلامية، خاصة بعد العدوان الثلاثي على مصر (1956) وبعد نكسة حزيران/يونيو 1967.
وتشير دراسة صادرة عن مركز "ويلسون" في واشنطن إلى أن العلاقة في تلك الفترة بقيت في إطار محدود، اعتمد على تبادل تجاري متزايد، وبعض الاتصالات الاستخباراتية غير المعلنة، مع حرص تركي على عدم إثارة غضب العالم العربي.
في التسعينيات، دخلت العلاقات التركية الإسرائيلية مرحلة توصف كثيرا بالعصر الذهبي، فبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، توسعت مجالات التعاون بين البلدين بشكل ملحوظ، خاصة في الجوانب الأمنية والعسكرية، حيث شملت العلاقات توقيع اتفاقيات دفاع مشترك، وصفقات عسكرية، وتعاون استخباراتي وتدريب طيارين أتراك.
ووفق تقرير صادر عن مؤسسة "بروكنغز" في واشنطن، وقع الطرفان خلال التسعينيات اتفاقيات للتدريب العسكري المشترك وتبادل المعلومات الاستخباراتية، كما شهدت العلاقات تطورًا في التعاون المدني، لا سيما في مجالات المياه والزراعة والتكنولوجيا. ورافقت هذه المرحلة زيارات رفيعة المستوى وتنسيقا في ملفات إقليمية حساسة، من أبرزها مواجهة النفوذ السوري والإيراني في المنطقة.
في عام 2005، قام رجب طيب أردوغان بأول زيارة رسمية إلى إسرائيل بصفته رئيسا للوزراء، تضمنت زيادة التعاون الاقتصادي والسياسي، وعززت الزيارة موقف تركيا كوسيط محتمل في عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وسرعان ما أعادت التطورات اللاحقة إلى توتر العلاقات، خاصة بعد حرب
غزة عام 2008 وتصاعد الخلافات السياسية بين الجانبين.
بوادر التوتر
شكلت حرب غزة أواخر عام 2008 وبداية 2009 محطة فارقة في العلاقات التركية الإسرائيلية، حيث أدان رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان العملية العسكرية الإسرائيلية بشدة، ما أدى إلى توتر كبير انعكس على مختلف مسارات التعاون بين البلدين.
وتزايد التوتر إلى مستوى غير مسبوق في 31 أيار/مايو 2010، خلال حادثة سفينة "مافي مرمرة"، حين اقتحمت قوات الاحتلال الإسرائيلية سفينة مساعدات تركية كانت متجهة إلى غزة، ما أسفر عن استشهاد عشرة نشطاء أتراك.
ووفقا لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، فجرت الحادثة غضبا شعبيا ورسميا واسعا في أنقرة، وأدت إلى استدعاء السفير التركي من تل أبيب، وتجميد العلاقات العسكرية والدبلوماسية مع إسرائيل.
محاولة إسرائيلية لتعديل مسار العلاقات
قدم نتنياهو في عام 2013، وتحت ضغط أمريكي، اعتذارا رسميا لأردوغان عبر اتصال هاتفي برعاية الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، وهو ما اعتُبر خطوة أولى نحو إصلاح العلاقات.
وفي عام 2016، جرى توقيع اتفاق لتطبيع العلاقات تضمن تعويض عائلات الضحايا الأتراك، واستعادة السفراء، وفتح قنوات تعاون إنساني نحو غزة.
وأشارت وكالة "رويترز" إلى أن هذا الاتفاق أعاد بعض الدفء، لكنه لم ينجح في محو آثار الأزمة تماما.
قرار أمريكي يربك محاولات التهدئة
تصاعد التوتر بين تركيا وإسرائيل مجددا منذ عام 2018، بالتزامن مع قرار إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نقل السفارة الأمريكية إلى القدس والاعتراف بها عاصمة لإسرائيل.
وقد وصف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إسرائيل بأنها "دولة إرهاب"، وأعلن رفضه القاطع لأي محاولة لتغيير الوضع القانوني والتاريخي للقدس.
ووفقًا لوكالة "أسوشييتد برس"، استدعت أنقرة سفيرها لدى تل أبيب، وطلبت من السفير الإسرائيلي مغادرة البلاد، في خطوة عكست هشاشة مسار التطبيع بين البلدين في ظل التوترات الإقليمية المستمرة.
القضية الفلسطينية أساس الخلاف بين الجانبين
ظلت التطورات في غزة دائما نقطة خلاف متكررة، ومع هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، ثم العدوان الإسرائيلي الواسع على القطاع، تصاعد الخطاب التركي ضد تل أبيب.
وشبّه أردوغان نتنياهو بـهتلر، واتهمه بممارسات تشبه جرائم الحرب، مشيرا أن دولة الاحتلال الإسرائيلي تسير نحو عزلة دولية.
وقال في تصريح بارز أواخر 2023:"ما يفعله نتنياهو ليس أقل مما فعله هتلر، بل ربما أسوأ، لقد رأينا معسكرات نازية تديرها إسرائيل، لا فرق بينكما."
في سياق متصل، أعاد نتنياهو في عام 2025 طرح قضية "نقش سلوان"، وهو نقش أثري قديم محفوظ في متحف إسطنبول منذ العهد العثماني، وطالب مجددا تركيا بتسليمه إلى إسرائيل، معتبرا أنه دليل أثري على "الحقوق التاريخية اليهودية في القدس".
ورد أردوغان على هذه المطالب بقوله الحاسم خلال معرض "تكنوفيست" في أنقرة: "لن نعطيكم ذلك النقش، ولا حتى حصاة واحدة من القدس".
تركيا تحتضن العدو الأبرز لإسرائيل
أعلنت تركيا عدة مرات أنها تستضيف أفرادا من حركة حماس في إطار تقديم العناية الطبية، ففي مايو 2024، صرح الرئيس رجب طيب أردوغان بأن أكثر من ألف عضو من حماس يُعالجون في مستشفيات تركية، واصفا الحركة بأنها "حركة مقاومة"، وليس منظمة إرهابية.
وتسمح تركيا، بصورة رسمية وشبه رسمية، بزيارات دبلوماسية لمسؤولين من المكتب السياسي لحماس، وتستخدم هذه اللقاءات كجزء من دورها الوسيط في إيقاف الانتهاكات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، ففي أيلول/سبتمبر 2024، التقى رئيس جهاز الاستخبارات التركي إبراهيم كلين مع وفد من قيادة المكتب السياسي لحماس في أنقرة، في سياق مفاوضات لوقف إطلاق النار في غزة.
كما تحذر أنقرة إسرائيل من استهداف أعضاء من حماس داخل الأراضي التركية، مبينة أن أي هجوم من هذا النوع سيكون له "ثمن غال"، بحسب تصريحات أردوغان عقب تسجيلات لوكالة أمن إسرائيلية أشارت إلى نية إسرائيل اتجاه عمليات خارجية.
استقرار الساحة الاقتصادية حتى عام منتصف 2024
رغم الخطاب الحاد بين أنقرة وتل أبيب، بقيت العلاقات الاقتصادية قائمة بدرجات متفاوتة، إذ أوردت مصادر أن حجم التبادل التجاري بين تركيا وإسرائيل بلغ نحو 6.8 مليار دولار في عام 2023، بحسب صحيفة "الغارديان" البريطانية.
وفي أواخر أغسطس 2025، صرّح وزير الخارجية التركي حاكان فيدان بأن أنقرة أغلقت موانئها وسوحتها الجوية أمام الطائرات والسفن الإسرائيلية، خاصة تلك المرتبطة بالأمور الرسمية أو التي تحمل أسلحة، مؤكدًا أن تركيا أوقفت جميع العلاقات التجارية والاقتصادية مع إسرائيل، في خطوة وصفتها وسائل إعلامية بأنها من أشدّ الخطوات تشدّدًا في العلاقات بين البلدين منذ عقود.
الصراع القانوني في المحاكم الدولية
أخذ المسار القانوني للعلاقة بين الجانبين صدى واسعا في السنوات الأخيرة، حيث دعمت تركيا تحركات فلسطينية في كل من محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، متهمة إسرائيل بارتكاب جرائم حرب وجرائم إحباط معاهدات دولية في غزة، بحسب وكالة "الأناضول".
أعلنت أنقرة في أيار/مايو 2024 نيتها الانضمام رسميا إلى قضية قدمتها جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية تتهم فيها إسرائيل بالإبادة، كما سلّمت جمعية المحامين في إسطنبول ملفا يحتوي على أدلة من صور وفيديوهات إلى المحكمة الجنائية الدولية بزعم ارتكاب جرائم حرب.
وزاد هذا التوجه القانوني من الضغط على إسرائيل، وأحرجها أمام المجتمع الدولي، خصوصا مع تصاعد الدعوات المحايدة والمنظمات الحقوقية التي تطالب بالرقابة والمساءلة القانونية.
تنسيق أمني لتجنب المواجهة المباشرة
لم ينقطع التنسيق الأمني والاستخباري بين الطرفين كليا رغم التوتر السياسي والخطاب العنيف، فقد نشر معهد "ديان" تقريرا في منتصف عام 2025 يبين أن أنقرة وتل أبيب لا تزالان تتعاملان بطريقة تحفظ مصالحهما الأمنية، خاصة في سوريا.
واتفق الطرفان مؤخرا على خط ساخن لتجنب التصعيد العسكري هناك، ز تُظهر هذه المفارقة بين التصريحات العلنية الحادة والمصالح الأمنية الواقعية المشتركة مدى تعقيد العلاقة، إذ إن الأعداء الظاهرين قد يصبحون شركاء وظيفيين حين تتقاطع المصالح الاستراتيجية بدرجة كبيرة.
وتتباين الأسباب العميقة للتوتر التركي الإسرائيلي بين مشاكل داخلية وخارجية، وعلى الصعيد الداخلي، يستخدم أردوغان القضية الفلسطينية لتعزيز مكانته في الشارع التركي والإسلامي، باعتباره مدافعا عن القضية الفلسطينية والقدس والأقصى.
الملف السوري ضمن مسار العلاقة بين تركيا وإسرائيل
بالرغم من التوترات، أعلن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أنه قد تم نقل ملاحظات تركيا إلى إسرائيل عبر الأجهزة الاستخباراتية، مؤكدًا أن أنقرة "لا تريد عدم الاستقرار" لكنها لن تتغاضى عن تجاوزات تمس أمنها القومي، وأدانت تركيا مرارًا الضربات الجوية الإسرائيلية في دمشق والمناطق الجنوبية من سوريا ووصفتها بانتهاكات للسيادة السورية والقانون الدولي.
وعلى الصعيد الإقليمي، ترى أنقرة أن دعم القضية الفلسطينية يمنحها موقعًا قياديا مميزا في العالم الإسلامي، في مواجهة ما تعتبره محاولات إسرائيل فرض أمر واقع بالقوة. ويستخدم الخطاب الرسمي التركي، بخطاب حقوق الإنسان والرمزية الدينية، كوسيلة لتعزيز مكانتها الدولية بين الدول التي تعارض السياسات الإسرائيلية، وخاصة فيما يتعلق بالقدس وغزة.
من جهة أخرى، تتمسك إسرائيل بروايتها التاريخية المزعومة حول القدس، وتتبنى مشروع دولة إسرائيل الكبرى، لتبرير جرائمها وانتهاكاتها بحق الفلسطينيين والبلدان القريبة من الأراضي المحتلة.
هل ينتهي المسار إلى الخيارات العسكرية؟
قال موشيه إلعاد، الحاكم العسكري الأسبق للضفة الغربية، في مقابلة مع صحيفة "معاريف"، إن ردّ تركيا على هجوم الدوحة يعكس خشيتها الجدية من أن تُدرج ضمن قائمة الأهداف الإسرائيلية، في ظل القناعة بأن الاحتلال لا يضع لنفسه خطوطًا حمراء لاستهداف قادة حماس، وهو ما قد يجعل أنقرة الهدف المقبل.
في 28 تموز/يوليو 2024، وفي كلمة أمام أعضاء حزبه العدالة والتنمية بمدينة ريزه، هدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأن بلاده قد تدخل إسرائيل، بالأسلوب نفسه الذي تدخلت به في ليبيا وقره باغ.
وقال: "يجب أن نكون أقوياء حتى لا تفعل إسرائيل هذه الأمور ضد فلسطين. كما دخلنا قره باغ، كما دخلنا ليبيا، قد نفعل المثل معهم"، وأثارت هذه التصريحات، التي بثتها وسائل إعلام دولية ردود فعل غاضبة من إسرائيل والمجتمع الدولي.
يُظهر تاريخ العلاقات بين تركيا وإسرائيل أنها لم تمر بالاستقرار الكامل، بل ارتبط مسارها دائما بتقلبات السياسة الدولية والإقليمية والداخلية، فمن الاعتراف المبكر بإسرائيل مرورا بالتحالف العسكري الوثيق في تسعينيات القرن الماضي، وصولا إلى حادثة سفينة مرمرة وحروب غزة، ثم محاولات التطبيع التي أعقبتها موجات قطيعة تجارية وسياسية، ظل هذا المسار يعكس بصورة جلية تقلبات الشرق الأوسط. وبرغم المبادرات المتكررة لتهدئة الخلافات، تبقى القضية الفلسطينية العائق الأبرز أمام بناء علاقة طبيعية بين أنقرة والاحتلال.