صحافة دولية

ديفيد هيرست: توني بلير ينضم لترامب ومن يتغذون على الهولوكوست الفلسطيني

اجتماع في البيت الأبيض ضم بلير وكوشنر وترامب لمناقشة مستقبل غزة- أ ف ب
نشر موقع "ميدل إيست آي" مقالا لرئيس التحرير ديفيد هيرست تناول انضمام رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير إلى ما سماهم "الجوارح التي تتغذى على الهولوكوست الفلسطيني"،  حيث بعد عامين تقريبا من الإبادة الجماعية، يناقش قادة الغرب خططا لبناء مشاريع إعمار ضخمة تشبه دبي فوق حقول الموت الفلسطينية.

وقال هيرست إن بلير، الذي طرح قبل نحو 18 عاما خططا اقتصادية مشابهة في الضفة الغربية لم تُنفذ، ويجري حاليا محادثات مع صهر ترامب جاريد كوشنر بشأن رؤية جديدة لمرحلة ما بعد الحرب في القطاع.

وأشار إلى أن هذه الطروحات تتعامل مع غزة كمشروع استثماري يتجاهل الفلسطينيين وحقوقهم الوطنية، في وقت تواصل فيه إسرائيل عملياتها العسكرية والتهجير في الضفة الغربية والقطاع.

وفيما يلي نص المقال:

رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير انضم إلى "الجوارح التي تتغذى على الهولوكوست الفلسطيني"، وبعد عامين تقريبا من الإبادة الجماعية، يناقش قادة الغرب خططا لبناء مشاريع إعمار ضخمة تشبه دبي فوق حقول الموت الفلسطينية.

فقد مر ما يقرب من 18 عاما منذ أن قدم توني بلير، مبعوث الشرق الأوسط آنذاك، وثيقةً من 34 صفحةً حددت "ممرا للسلام والازدهار"، يمتد من البحر الأحمر إلى مرتفعات الجولان المحتلة. وتضمنت خطة بلير إنشاء منطقة صناعية زراعية بالقرب من أريحا في الضفة الغربية المحتلة لتسهيل نقل البضائع إلى الخليج عبر الأردن.

وكان من المقرر إنشاء منطقة صناعية أخرى، أو "مشروع سريع الأثر"، في ترقوميا بالخليل، وثالثة في الجلمة شمال جنين. ولم يكن هذا جديدا. فقد نصت اتفاقيات أوسلو، الموقعة عامي 1993 و1995، على إنشاء ما يصل إلى تسع مناطق صناعية على طول الخط الأخضر من جنين شمالا إلى رفح في غزة.

وأعلن بلير المتفائل بدعم السلطة الوطنية الفلسطينية والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية واليابان، كصاحب رؤية حقيقية لطالما عرفها: "إذا نجحت الحزمة المذكورة أعلاه، فستتبعها حزم أخرى مماثلة. وبهذه الطريقة، مع مرور الوقت وتدريجيا، يمكن تخفيف عبء الاحتلال، ولكن بطريقة لا تعرض أمن إسرائيل للخطر".

وأضاف: "إنني أؤمن إيمانا راسخا بأن هذه الخطوات ستسهل أيضا المفاوضات الجارية بين الطرفين، بهدف التوصل إلى اتفاق سلام قابل للتطبيق ودائم بين بلدين، يعيشان جنبا إلى جنب في سلام وازدهار".

ولم يتبق اليوم من منطقة بلير الصناعية عند معبر الجلمة مع إسرائيل سوى القليل. ولسنوات، ظل الموقع المسيج خاليا، إلى أن حاولت السلطة الفلسطينية، بدعم من مستثمرين أتراك،إنشاء "مدينة صناعية" في جنين.

الآن، لم يبق من تلك الأحلام سوى بضعة طرق وعدد قليل من المستودعات. في عام 2008 نسب بلير لنفسه الفضل في تقليل عدد حواجز الطرق في الضفة الغربية المحتلة، التي كان عددها آنذاك حوالي 600 حاجزا. أما اليوم، فقد بلغ عددها 898 نقطة تفتيش عسكرية، بما في ذلك عشرات البوابات التي تغلق البلدات والقرى الفلسطينية معظم ساعات اليوم، والحياة الاقتصادية معطلة تماما.

وتجوب ميليشيات المستوطنين الأرض وتروع البلدات الفلسطينية وتطرد الفلسطينيين من مساحات شاسعة من الأراضي، التي يزعم أنها "مزارع رعاة" غير قانونية بالتنسيق مع وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، الذي تولى السيطرة على الإدارة المدنية في الضفة الغربية المحتلة.


وينظر إلى كل هذا على أنه تمهيد للإعلان المرتقب على نطاق واسع عن ضم إسرائيل للمنطقة "ج"، بما في ذلك حوالي ثلثي الضفة الغربية. وقد تم تشريد أكثر من 40,000 فلسطينيا جراء هدم مخيمات اللاجئين في جنين وطولكرم ونور شمس، في عملية عسكرية إسرائيلية تسمى "الجدار الحديدي"، والتي دخلت شهرها الثامن.

وفي عام 2009، حصل بلير على جائزة تقديرا لخطته التي ولدت ميتة: جائزة قدرها مليون دولار أمريكي "للقيادة"، خصص معظمها لمؤسسته الخاصة "للتفاهم الديني".

وقد عاد بلير للعمل بعد 23 شهرا من الإبادة الجماعية والهدم في غزة.

ويقدم نفسه من جديد وبعد ما يقرب من عقدين من الزمن كخبير محنك في شؤون الشرق الأوسط.

وقيل إنه  يقدم المشورة للبيت الأبيض ويجري محادثات مع صهر دونالد ترامب، جاريد كوشنر، حول أحدث خطة للرئيس الأمريكي بشأن غزة. وتم الكشف عن الاستراتيجية، أو على الأقل نسخةٌ منها والمكونة من 38 صفحة، حيث تحتوي على رؤيةً لغزة ما بعد الحرب.

وقد أصبحت غزة، منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، مختبرا للموت في القرن الحادي والعشرين ودرسا مروعا في كيفية إعادة صياغة قواعد الحرب وكيفية استخدام الطائرات بدون طيار والروبوتات لتعظيم الأضرار الجانبية وكيفية الاستفادة من الذكاء الاصطناعي لتحديد الأهداف وكيفية استخدام المجاعة ونقاط توزيع المساعدات لكسر إرادة شعب على المقاومة وكيفية تفكيك أنظمة الصحة والتعليم وكيفية تشريد أمة بأكملها.

وكان جوزيف منغيله، الطبيب النازي الذي أجرى تجارب مميتة على السجناء في "أوشفيتز" قد اعترف بالعديد من معايير الأداء هذه كإنجازات. والآن، تجرى تجربة بشرية أخرى، على فلسطينيي غزة، مع التركيز على كيفية بناء "مشاريع ضخمة" على غرار دبي بقيمة 324 مليار دولار فوق قبورهم.

وقال إن أول ما يلفت بالعرض المقدم من "أباطرة غزة" الجدد، هو وحشيته. فهو يخلو من أي اعتراف بغزة كوطن فلسطيني. في هذا، عاد مؤلفوه إلى المعايير الأخلاقية لروسيا القيصرية، وإلى ما حدث في حقل خارج موسكو بعد أربعة أيام فقط من تتويج القيصر نيكولاس الثاني.

فقد تجمع ما يصل إلى نصف مليون روسي في خودينكا لتناول الطعام المجاني والهدايا من القيصر، والتي ورد أنها تضمنت لفائف خبز ونقانق وبريتزل وخبز الزنجبيل وأكوابا تذكارية. وعندما انتشرت شائعات عن عدم وجود ما يكفي من البيرة والبريتزل للجميع، وأن أكواب المينا تحتوي على عملات ذهبية، حدث تدافع، قتل فيه أكثر من 1,200 شخصا وجرح ما يصل إلى 20,000 شخصا.

 ومع ذلك مضى الإمبراطور والإمبراطورة قدما في خططهما. ظهرا أمام الحشود من على شرفة القصر في منتصف الحقل، وبحلول ذلك الوقت كانت الجثث قد أُزيلت. وهذا يشبه الطريقة التي يتصرف بها الأباطرة اليوم تجاه سكان غزة الجائعين والمحتضرين، إلا أن حجم المأساة اليوم يجعل  من عدم اكتراث نيكولاس الثاني بمصير شعبه يبدو منضبطا.

ويعتزم ترامب بناء أرض عجائب على غرار دبي فوق قبور 63,000 قتيلا (والعدد في ازدياد). يمتد هذا النقص النفسي في التعاطف إلى الأحياء والأموات على حد سواء: فالجنة التي ستحول غزة من "وكيل إيراني مدمر" إلى "حليف إبراهيمي مزدهر" لن تكون "خالية من حماس" فحسب، بل خالية من معظم الفلسطينيين أيضا.

وفي الواقع، كلما زاد عدد الفلسطينيين الذين يغادرون، انخفضت تكلفة المشروع. فمقابل كل فلسطيني يغادر، تحسب الخطة توفير 23,000 دولارا ومقابل كل واحد في المئة من السكان الذين ينتقلون، يبلغ هذا 500 مليون دولار من المدخرات. ولحث فلسطينيي غزة على مغادرة أرضهم، تقترح الخطة منح كل شخص 5000 دولار ودعم إيجار مسكنهم في بلد آخر لمدة أربع سنوات، بالإضافة إلى طعامهم لمدة عام واحد.

 ويعتقد أن المسودة الأولى لخطة إعادة تطوير غزة قد أُنجزت في نيسان/أبريل الماضي، وعرضت على إدارة ترامب. ولا يعرف ما إذا كان هذا المقترح قد نوقش خلال الاجتماع الأخير بين كوشنر وبلير، اللذان كانا يناقشان أفكارا مماثلة، لكن مسار العمل واضح.

 وذكر هيرست بلير بما حدث في اتفاق الجمعة السعيدة في أيرلندا الشمالية. وأن خطة مبنية على جعل غزة "خالية من حماس" محكوم عليها بالفشل.

وعليه أن يستحضر أيامه كرئيس للوزراء وجهود حكومته للتفاوض مع الجيش الجمهوري الأيرلندي. تخيلوا لو أن أحدهم اقترح عليه نزع الصفة الجمهورية عن شورت ستراند، موطن جيش التحرير الوطني الأيرلندي، أو غرب بلفاست بأكمله كشرط مسبق للسلام. ولكن بريطانيا تفاوضت مع جهة كانت تصنفها إرهابية، أدت إلى صيغة سلام.

ولو طبقنا الصيغة التي جلبت السلام إلى أيرلندا الشمالية على غزة وحماس، المصنفة كجماعة إرهابية في المملكة المتحدة، فماذا ستحصل؟ محادثات مباشرة مع حماس بشأن إطلاق سراح عدد كبير من الأسرى والمختطفين، تليها محادثات مع جميع فصائل المقاومة بشأن تشكيل حكومة تكنوقراط، إلى جانب إعادة جميع وكالات الإغاثة التابعة للأمم المتحدة، وإنهاء الحصار، وتدفق دولي ضخم للأموال والخرسانة لإعادة الإعمار. على المدى البعيد، يمكن لحماس أن تعرض "هدنة" لوقف الصراع المسلح إلى أجل غير مسمى.


هذه هي الصيغة الأيرلندية المطبقة على غزة. لكن ما يجري في غزة الآن هو عكس ذلك المسار. لأن كل تفكير بشأن فلسطين ينظر إليه من منظور الحاجة إلى الدفاع عن دولة إسرائيل المتوسعة وتسليحها.

وما كان للسلام في أيرلندا الشمالية أن يتحقق لولا المشاركة الفاعلة من دبلن وواشنطن. الولايات المتحدة اليوم، ممثلةً برئيسيها الديمقراطي والجمهوري، هي الداعم الرئيسي لإسرائيل الكبرى، والعقبة الرئيسية أمام سلام دائم.

فقد استبعدت حماس من العملية السياسية الأوسع منذ فوزها في آخر انتخابات حرة أُجريت في فلسطين عام 2006. وقد سهل سلوك السلطة الفلسطينية وقادة كل حكومة عربية مهمة بلير في هذا الصدد بشكل كبير. وهو ليس وحيدا في محاولة تطبيق حل يتجاهل الشعب الفلسطيني ويخالف إرادته.

 على مدار الأشهر الثلاثة والعشرين الماضية، حاولت إسرائيل بالقوة تحقيق ما فشلت في تحقيقه 17 عاما من الحصار الوحشي المتزايد من خلال الحرمان ونوبات القصف. اليوم، أصبح بلير رجلا ثريا للغاية، أسمر البشرة، مرتاحا تماما برفقة أصحاب الملايين الآخرين مثل كوشنر.

اليوم، لا يعني له مليون دولار أي شيء. لقد كانت الإخفاقات المتسلسلة في الشرق الأوسط تجارة مربحة لبلير. ولكن لا يمكن تطهير غزة من حماس، تماما كما لا يمكن تطهير إنكلترا من الإنكليز أو فرنسا من الفرنسيين.

لم تكن هناك عملية سلام  ممكنة في أيرلندا الشمالية بدون موافقة الجيش الجمهوري الأيرلندي، وحتى مع موافقته، لا تزال هناك جماعات منشقة نشطة حتى اليوم. ولن تعمل أي حكومة فلسطينية بعد الحرب في غزة بدون موافقة حماس، صريحة كانت أم ضمنية. هذه هي الحقيقة الوحيدة على الأرض التي ترسخت بعد 23 شهرا من المقاومة.

إلى جانب ذلك، في كل الاختصارات المبتذلة، في كل الخطط المذهلة للموانئ والمطارات والمدن ذات ناطحات السحاب الشاهقة وشبكة الطرق المليئة بالطرق السريعة الدائرية، هناك تفصيل صغير مفقود. أي مكان في ريفييرا غزة ينوي ترامب أن يقيم فيه نصبا تذكاري لأكثر من 63,000 فلسطينيا قتلوا وجرح 160,000 شخصا في الإبادة الجماعية الإسرائيلية؟ وماذا سيسمي ترامب هذا؟ نصب تذكاري للهولوكوست الفلسطيني الذي نفذه نظام نتنياهو؟