يمر
العراق بأزمة مائية خطيرة،
تزامنت مع تراجع منسوب نهري
دجلة والفرات إلى أدنى مستوياته منذ عقود، في ظل مخاوف
العراقيين من انعكاساتها على المستويات
الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، وضغوط
متزايدة من تغيّر المناخ ومشاريع السدود في دول الجوار.
وقالت وزارة الزراعة العراقية إن العراق انتقل من شح المياه
إلى ندرتها، حيث مستويات التخزين المائي انخفضت إلى أقل من 10 مليارات متر مكعب.
وذكرت وزارة الموارد المائية العراقية إن هذا العام هو الأكثر
جفافا منذ عام 1933، مبينة أن إيرادات نهري دجلة والفرات وصلت إلى 27% فقط مقارنة
بالعام الماضي، وأن مخزون المياه في السدود والخزانات انخفض إلى 8% من قدرتها
التخزينية بنسبة تراجع بلغت 57% عن العام الماضي.
ومن جانبه، أكد عضو الاتحاد المحلي للجمعيات الفلاحية
التعاونية في العراق أحمد العيساوي أن الأزمة المتفاقمة للجفاف في العراق وصلت إلى
مستويات كارثية هذا العام، مما يهدد الأمن الغذائي ويقضي على سبل عيش المزارعين.
وفي سياق آخر، حذّرت الأمم المتحدة من أنّ موجات الجفاف
المتفاقمة بفعل تغيّر المناخ باتت تمثل "تهديداً مميتاً بطيء الحركة"،
مؤكدةً أن العالم يشهد خلال العامين الأخيرين بعضاً من أسوأ حالات الجفاف المسجلة
في تاريخه، من إفريقيا إلى أوروبا وأمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا.
أسباب الأزمة
في مقال رأي نُشر على
الموقع الرسمي للأمم المتحدة في العراق، قال غلام محمد إسحق زي، المنسق المقيم للأمم المتحدة في العراق، "تشمل الضغوط على موارد البلد المائية: بناء دول الجوار للسدود والاستخدام المكثف للمياه في الزراعة في العراق والاستخدام المنزلي غير المستدام للمياه وتأثير الصراعات والحروب العنيفة على البنى التحتية الأساسية للمياه وتبعات تغير المناخ".
ومن جانه, قال الدكتور محمد علي عبود، التدريسي في كلية الزراعة بجامعة ديالى، في مقاله الأكاديمي المعنون "
شحة المياه في العراق: الأسباب والحلول المقترحة"، إن "أزمة شحة المياه في العراق لا ترتبط بعامل واحد فقط، وإنما هي نتاج تداخل عدة عوامل داخلية وخارجية، منها التغيرات المناخية وقلة سقوط الأمطار، وكذلك بناء السدود الكبيرة على نهري دجلة والفرات من قبل دول الجوار، فضلاً عن سوء إدارة الموارد المائية داخل العراق".
وتشير الأزمة إلى عدة عوامل "خارجية وداخلية" أدت إلى
انخفاض منسوب نهري دجلة والفرات، ومن أهمها:
سياسات تركيا وإيران
منذ عام 1974، قامت تركيا ببناء 22 سدا ومحطة للطاقة
الكهرومائية ومشاريع ري على نهري دجلة والفرات.
وشرّعت تركيا بتنفيذ مشروع "غاب" منذ عام 1990،
وتضمن بناء عشرات السدود أبرزها سد أليسو الذي افتتح عام 2018، ما أحدث انخفاضا
ملحوظا لتدفق المياه إلى العراق.
وبدورها، بدأت إيران في مطلع القرن العشرين بتحويل مجاري بعض
الأنهار اللذين يصبان داخل الأراضي العراقية مثل الكارون والزاب الصغير، الأمر
الذي انعكس على تدفق المياه نحو محافظات ديالى والبصرة.
ويفتقر العراق إلى أي اتفاقية دولية واضحة يحدد من خلالها
مصالحه المائية، معتمدا على أساليب تقليدية كالمطالبة بالمعالجة المؤقتة لحين
انتخابات تغير مفاتيح الحكم في بغداد.
وأفاد مصدر فني في
سد الموصل لشفق نيوز بأن الإطلاقات المائية
من السد باتجاه نهر دجلة جرى رفعها إلى 350 مترا مكعبا في الثانية، مضيفا أن
الواردات القادمة من تركيا شهدت زيادة طفيفة لكنها ما تزال أقل من المعدلات التي
نصّ عليها الاتفاق الاستراتيجي بين العراق وتركيا.
وأبلغ المصدر أن الواردات من تركيا إلى سد الموصل ما تزال ضمن
المعدلات الطبيعية وأن اتفاق الزيادة بين العراق وتركيا لم يدخل حيز التنفيذ في
حينه.
الإدارة الداخلية
ويعتمد العراق في مشاريعه الزراعية بشكل أساسي على أساليب الري
التقليدية، مستهلكة كميات كبيرة من مخزون البلاد المائي. ومنذ 2003 استمرت الحكومات
العراقية بالاعتماد على هذه الأساليب دون استحداث طرق حديثة.
ومن الجدير بالذكر أن تقارير رسمية نُشرت في وقتٍ سابق قد أشارت إلى أن شبكات المياه المتهالكة في عدد من المناطق كانت من بين العوامل الرئيسية التي تسببت في هدرٍ كبير للموارد المائية، حيث قُدِّرت نسبة الفاقد بنحو 40% من إجمالي المياه المتاحة.
وأكدت عضو لجنة الزراعة والمياه النيابية ابتسام الهلالي أن
"العوامل الطبيعية والسياسية، بما في ذلك قلة الأمطار وانخفاض الإيرادات
المائية من دول الجوار، أثرت بشكل مباشر على المخزون المائي في العراق".
فيما اتهم ناشطون الحكومة بإهمال أخطر تقارير الجفاف، لافتين إلى أن العراق لم يشهد مثل هذه الأزمة منذ 80 عاماً، فيما تؤكد دراسات عالمية أن أنهاره مهددة بالجفاف الكامل بحلول عام 2040 بسبب عدم استلام حصته المائية.
المناخ
قال رئيس جمهورية العراق، عبد اللطيف جمال رشيد، خلال
قمة الأمم المتحدة للمناخ COP28 التي انعقدت في الإمارات، إن العراق من أكثر بلدان العالم هشاشة تجاه التغيرات المناخية، وبيّن أنّ نهري دجلة والفرات أصبحا اليوم مهدّدين بالانحسار والجفاف بفعل تأثيرات عدة، من ضمنها التغير المناخي.
وأشار إلى أن أحوال الطقس المتطرفة مثل درجات الحرارة القياسية، قلة هطول الأمطار، اتساع رقعة الجفاف والتصحر، تدهور الأراضي، وزيادة العواصف الترابية والرملية، كلّها تُسبّب خسائر للموارد الطبيعية، وتفاقم التحديات الاقتصادية، ما أدّى إلى زيادة الفقر ومعدلات النزوح الداخلي والهجرة الخارجية.
وبحسب
برنامج الأمم المتحدة للبيئة، يُعتبر العراق من الدول الخمس الأكثر عرضةً لمخاطر تغير المناخ في العالم، كما أنه واحد من أسوأ الدول استعداداً لتلك المخاطر، إذ يصل معدل الإجهاد المائي هناك إلى 3.7 نقطة من أصل 5 نقاط، ويمثل تقييم الـ 5 نقاط أعلى معدلات الندرة.
من جانبه, لفت الخبير البيئي عادل المختار إلى أن سوء إدارة الموارد المائية هو السبب الرئيسي لأزمة الجفاف الحالية، وليس التغير المناخي فقط, العراق كان لديه مخزون مائي وفير (21 مليار متر مكعب) في بداية الصيف الماضي، لكن سوء الإدارة أدى إلى هدر المياه.
الآثار
صرّح المتحدث باسم الوزارة، خالد شمال، أن "موسم الصيف يجب أن يبدأ بما لا يقل عن 18 مليار متر مكعب من المياه، لكن المتوفر حالياً لا يتجاوز 10 مليارات متر مكعب".
وأضاف, "في العام الماضي، كان مستوى الاحتياطي المائي يعادل ضعف الكمية الحالية"، مشيراً إلى أن العراق "لم يشهد مثل هذا الانخفاض في الاحتياطي منذ 80 عاماً"، وأن السبب الرئيسي يعود إلى التراجع الملحوظ في تدفّق النهرين.
وفي وقت سابق، تشير صحيفة نيويورك تايمز إلى تداعيات
نقص المياه على المجتمع حيث "تتآكل العلاقات الاجتماعية، وتندلع اشتباكات
دامية بين المزارعين ومربي المواشي، ويتشرد آلاف من الناس كل عام", مضيفة إلى أن الأنهار والمياه الجوفية المستنفدة والقذرة تتسبب
في حدوث التيفوئيد والتهاب الكبد A وتفشي الكوليرا.
وذكرت الصحيفة أن السلطات العراقية قد أعلنت أنها فتحت تحقيقا
لتحديد أسباب نفوق أطنان من الأسماك في نهر جنوبي البلاد, موضحة أن خبراء قالوا إن نقص المياه والتراخي في تطبيق
القيود البيئية، بالإضافة إلى التغير المناخي، هي وراء خسارة الأسماك، وربما خسارات
أخرى أكبر في المستقبل.
وقال مستشار لجنة الزراعة البرلمانية السابق عادل المختار إن
نقص الواردات المائية أدى إلى انخفاض جودة المياه في النهر بشكل كبير وجعله غير
مناسب لعيش الأسماك، التي يعيش على صيدها وتربيتها آلاف من العراقيين.
لكن الأسماك ليست وحدها المهددة، بحسب خبير الاستراتيجيات
والسياسات المائية رمضان حمزة، مضيفا أن القطاع الحيواني، بل والبشر في العراق
مهددون أيضا بسبب نقص المياه, كما أن نقص المياه يدفع سكان الريف للتوجه نحو المدن المزدحمة
أساسا، ويخلق تزاحما على فرص العمل القليلة والخدمات الشحيحة.
ويوثق ناشطون محليون عبر وسائل التواصل أن محافظات الجنوب، شهدت أقسى موجة جفاف في تاريخها الحديث، إذ أدى الجفاف إلى نفوق نحو 14 ألف من المواشي وتوقف الزراعة الصيفية بالكامل.
فيما حذر آخرون من أن الجفاف يسيطر على سد الموصل، مشيرين إلى أن انخفاض المخزون المائي ينذر بكارثة كبرى قد تترك المحافظات العراقية بلا ماء ولا كهرباء في ظل أجواء خانقة.
الجهود الحكومية لمواجهة الأزمة
قالت وزارة الزراعة العراقية إن سياستها ركزت على ترشيد
استهلاك المياه باستخدام تقنيات الري المدعومة وزيادة استخدامها وتطوير مجالات
الزراعة الذكية.
وأضافت بتركيزها على التكيف المناخي عن طريق زيادة الأصناف
والبذور المقاومة للحرارة والجفاف وتطوير البحوث في مجال زراعة الأعلاف والثروة
الحيوانية.
وأشارت الوزارة إلى تعاون المنظمات الدولية لإدخال أنظمة الري
الذكية والفعالة لتقلل استهلاك المياه بنسبة تصل إلى 40%.
واستضافت بغداد في 24 مايو "مؤتمر بغداد الدولي الخامس
للمياه" تحت شعار "المياه والتكنولوجيا.. شراكة من أجل التنمية"،
في ظل غياب دول إقليمية بارزة عن المؤتمر.
أعلن رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني خلال المؤتمر عن
مبادرة إقليمية لحماية نهري دجلة والفرات، مقرا بمحدودية التعاون المحلي والإقليمي
في هذا المجال.
وأشار عضو لجنة الزراعة في مجلس النواب العراقي ثائر مخيف إلى
أنه لا حل إلا بإنشاء السدود لضمان تخزين استراتيجي يؤمن حاجة البلاد من المياه
خلال الفترة المقبلة.
وأكد مخيف أن "تركيا رهنت زيادة الإطلاقات المائية بإحالة
السدود التي يرغب العراق بإنشائها إلى الشركات التركية".
وأضاف "إذا لم تلتزم تركيا بتنفيذ اتفاقها مع العراق
بإطلاق حصته الرسمية، سنخرج باحتجاجات شعبية تشمل جميع المحافظات والمدن التي
طالها الجفاف ووصل الأمر لدرجة ألا توجد مياه للشرب فما بالك بالزراعة أو الرعي أو
الاستخدام الفردي".
كما قال الدكتور محمد علي عبود, أيضا أن "مواجهة الأزمة تتطلب حلولاً عملية من أبرزها تحديث طرق الري المعتمدة في الزراعة للحد من الهدر، وإجراء كري للأنهار والجداول للحفاظ على انسيابية المياه، فضلاً عن تبني سياسة واضحة في التفاوض مع دول المنبع لضمان الحصص المائية، إلى جانب نشر ثقافة ترشيد الاستهلاك المائي بين المواطنين".