ملفات وتقارير

تونس تتحول إلى "سجن كبير".. تقرير دولي يكشف انتهاكات مروعة لحقوق الإنسان

السجون التونسية أصبحت مكتظة بالمعتقلين السياسيين من قادة أحزاب ونشطاء وصحفيين ومحامين، بعضهم دون محاكمة..
كشفت منظمة حقوقية دولية النقاب عن تدهور، وصفته بأنه "غير مسبوق" في وضع الحريات العامة وحقوق الإنسان في تونس منذ إعلان الرئيس قيس سعيد عن "الإجراءات الاستثنائية" في 25 يوليو 2021، ووصفت تونس بأنها "تتحول إلى سجن كبير" بفعل سياسة القمع الممنهج، واحتكار السلطات، وانهيار استقلال القضاء.

جاء ذلك في تقرير شامل صادر عن منظمة “أصوات حرّة للدفاع عن حقوق الإنسان” (Free Voice Organization for Human Rights Defense) ومقرها باريس، بالتزامن مع الذكرى الرابعة لقرارات سعيد. وقد غطى التقرير الفترة من يوليو 2021 إلى يوليو 2025، مستندًا إلى توثيقات ميدانية وشهادات عائلات ومحامين وحقوقيين.

سجون تعجّ بالمعارضين.. ومحاكمات بلا ضمانات

أكد التقرير أن السجون التونسية أصبحت مكتظة بالمعتقلين السياسيين من قادة أحزاب ونشطاء وصحفيين ومحامين، بعضهم دون محاكمة، وآخرون صدرت بحقهم أحكام قاسية تصل إلى 48 سنة سجن، بتهم تتعلق بـ"التآمر على أمن الدولة" أو "الإضرار بهيبة الرئيس".

وأشار إلى أن أبرز هذه القضايا هي ما يعرف بـ"قضية التآمر"، التي طالت 52 شخصية عامة، من بينهم رئيس البرلمان السابق راشد الغنوشي، ورئيس الحكومة الأسبق علي العريض، والحقوقي جوهار بن مبارك، والناشطة شيماء عيسى، وآخرون من أطياف سياسية متعددة.

تعذيب وإهمال طبي.. ووفيات غامضة

رصد التقرير تزايدًا خطيرًا في حالات التعذيب داخل مراكز التوقيف والسجون، شملت الضرب والصعق الكهربائي والتجريد القسري من الملابس، وبلغت ذروتها في حالات وفاة 8 معتقلين على الأقل في ظروف غامضة، من بينهم الشاب محمد أمين جندوبي.

وأشار التقرير إلى أن عدد ضحايا التعذيب بين 2024 و2025 بلغ 116 شخصًا، منهم 22% تعرّضوا لتعذيب جنسي، كما رُصدت أعمال عنف ممنهجة ضد مهاجرين أفارقة في مراكز احتجاز غير رسمية.

الصحافة في مرمى الاستهداف

أبرز التقرير الانهيار الكبير في حرية الإعلام، بسبب المرسوم عدد 54 لسنة 2022، الذي يجرّم ما يُسمّى "نشر أخبار كاذبة". وأشار إلى أن هذا المرسوم استخدم لقمع 65 صحفيًا ومدونًا، وأدى إلى إغلاق إذاعات وسجن صحفيين بأحكام وصلت إلى 27 سنة كما في قضية "إنستالينغو".

وبحسب نقابة الصحفيين التونسيين، فإن تونس تراجعت 47 مرتبة في مؤشر حرية الصحافة بين 2021 و2024، وسط بيئة "عدائية" تجاه الإعلاميين.

انهيار القضاء واستهداف المحامين

اتهم التقرير السلطات بتقويض استقلال القضاء عبر حل المجلس الأعلى للقضاء، وإقالة 57 قاضيًا دفعة واحدة، واعتقال شخصيات بارزة مثل القاضي البشير العكرمي.

كما ندد بـ "تجريم الدفاع القانوني"، حيث تم اعتقال ومحاكمة أكثر من 20 محاميًا بسبب نشاطهم في الدفاع عن المعتقلين السياسيين، ومنهم مهدي زقروبة، سونيا الدهماني، دليلة مسدق، إيناس الحراّث، وغيرهم.

لا محاسبة.. ولا شفافية

أكد التقرير غياب المحاسبة التامة عن جرائم التعذيب وسوء المعاملة والاعتقالات التعسفية، مع تجاهل القضاء لطلبات التحقيق، رغم صدور تقارير حقوقية محلية ودولية تؤكد وقوع انتهاكات جسيمة، بعضها موثق بالصوت والصورة.

ودعت المنظمة في ختام تقريرها إلى: الإفراج الفوري عن المعتقلين السياسيين وسجناء الرأي، وإلغاء المراسيم الاستثنائية وعلى رأسها المرسوم 54، ووقف إحالة المدنيين إلى المحاكم العسكرية، وإعادة العمل بدستور 2014 وضمان فصل السلطات، محاسبة المتورطين في التعذيب وانتهاك كرامة المعتقلين، وحماية الصحفيين والمحامين والناشطين من الاستهداف الأمني والقضائي.

أصوات تتلاشى في صمت دولي

حذّرت "أصوات حرّة" من تواطؤ المجتمع الدولي وصمته المريب إزاء ما يجري في تونس، داعية إلى تعليق التعاون الأمني والقضائي مع السلطات التونسية حتى تلتزم بالقانون الدولي وتُوقف قمعها للمعارضين.

وختمت المنظمة بالقول: "ما يحدث في تونس اليوم ليس مجرد أزمة سياسية، بل انهيار شامل لمنظومة الدولة القانونية والدستورية، وتحول البلاد إلى سجن مفتوح لكل صاحب رأي مستقل".

من هي منظمة "أصوات حرّة"؟

"أصوات حرّة للدفاع عن حقوق الإنسان" هي منظمة حقوقية دولية مستقلة، تأسست في فرنسا، وتعمل على رصد وتوثيق الانتهاكات الحقوقية في العالم العربي، لا سيما في البلدان التي شهدت تحولات سياسية أو انتكاسات ديمقراطية.

تُعنى المنظمة بالدفاع عن حرية التعبير، استقلال القضاء، حقوق المعتقلين، ومناهضة التعذيب. وتُصدر تقارير دورية باللغتين الفرنسية والإنجليزية، وتعمل بتنسيق مع منظمات حقوقية دولية.

أهم قرارات قيس سعيّد منذ 25 يوليو 2021

في 25 يوليو 2021، أعلن الرئيس قيس سعيّد عن "إجراءات استثنائية" تضمنت تجميد عمل البرلمان، ورفع الحصانة عن أعضائه، وإقالة رئيس الحكومة هشام المشيشي، في خطوة اعتبرها خصومه "انقلابًا على الدستور". وبرّر سعيّد قراراته بأنها تهدف إلى "إنقاذ الدولة" من الانهيار، وسط أزمة سياسية واقتصادية خانقة.

منذ ذلك التاريخ، اتخذ سعيّد سلسلة من الإجراءات غير المسبوقة، من أبرزها: تعليق ثم حلّ البرلمان رسميًا في مارس 2022، إصدار مراسيم رئاسية دون الرجوع إلى أي جهة رقابية أو تشريعية، مستندًا إلى الأمر الرئاسي عدد 117 لسنة 2021، حلّ المجلس الأعلى للقضاء في فبراير 2022، وفرض وصاية السلطة التنفيذية على السلطة القضائية، طرح دستور جديد أُقر في استفتاء يوليو 2022، عزّز صلاحيات الرئيس وقلّص دور البرلمان والقضاء، وكرّس نظامًا رئاسويًا مطلقًا، إصدار المرسوم 54 لسنة 2022 الذي يجرّم "نشر الأخبار الكاذبة"، والذي اعتُبر أداة لقمع حرية التعبير والصحافة، محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري، في سابقة تُعد تراجعًا خطيرًا عن مكتسبات ما بعد الثورة.

هذه الخطوات، التي جاءت دون حوار وطني جامع أو توافق سياسي، قادت إلى تراجع حاد في مؤشرات الديمقراطية، وتفاقم الانتهاكات الحقوقية، بحسب تقارير محلية ودولية، وجعلت من تونس نموذجًا مثيرًا للقلق بشأن مستقبل الحريات في المنطقة.