تُعدّ
مذكرة التفاهم البحرية الموقعة بين
ليبيا وتركيا في عام 2019 إحدى أهم الوثائق
القانونية التي أثرت في مسار النزاع الجيوسياسي في
شرق المتوسط، لأنها لم تعد مجرد
اتفاق لترسيم الحدود البحرية، بل أصبحت اختبارا مباشرا لقدرة الدولة الليبية -رغم
انقسام مؤسساتها- على ممارسة قرارها السيادي وحماية مصالحها الحيوية في منطقة
تتنافس فيها الإرادات الإقليمية على الطاقة والنفوذ. فقد جاءت هذه
الاتفاقية في
مرحلة كان يُراد فيها تهميش ليبيا من خرائط الغاز وخطوط الأنابيب، فأعادتها إلى
موقع الفاعل بعد سنوات كانت تُعامَل فيها كفراغ جغرافي في مشاريع الطاقة
والتحالفات.
من
الزاوية القانونية الصرفة، تستند المذكرة إلى قواعد اتفاقية الأمم المتحدة لقانون
البحار، وإلى السوابق القضائية لمحكمة العدل الدولية ومحكمة البحار، والتي تُرسخ
قاعدة أن مبدأ الخط الأوسط هو الأساس العادل لترسيم المناطق البحرية بين الدول
المتقابلة، وأن الجزر لا تمنح حقوقا بحرية كاملة إذا أدى ذلك إلى إلحاق ضرر فادح
بدولة ساحلية مقابلة أو إلى تهميش امتدادها الطبيعي.
تبقى الحقيقة الأساسية أن مذكرة 2019 أعادت ليبيا إلى قلب الجغرافيا السياسية للمتوسط. فقد منحتها امتدادا بحريا يتفق مع موقعها الطبيعي، وحررتها من مبدأ "العزل البحري" الذي كان يُمارس بحقها
وقد التزمت المذكرة بهذه
المرجعية عندما اعتمدت خطا وسطيا يمنح ليبيا امتدادا بحريا مشروعا شرقا، ويحول دون
حرمانها من مجالها الطبيعي لصالح خرائط كانت
اليونان ومصر تعملان على تثبيتها
دوليا.
ومع دخول
ليبيا في الممر البحري الذي أنشأته الاتفاقية، أصبحت جزءا من معادلة الغاز في شرق
المتوسط. ففي ظل مشروع خط الغاز "إيست ميد" الذي كان يُخطط لربط دول
المنطقة بأوروبا مع تجاوز ليبيا بالكامل، مثّل الاتفاق تحولا هيكليا، إذ لم يعد
بالإمكان استبعاد ليبيا من أي ترتيبات بحرية أو اقتصادية تخص شرق المتوسط. وهذا
يمثل لأول مرة منذ 2011 نقطة القوة الاستراتيجية التي عادت بها ليبيا إلى طاولة
التفاوض الكبرى.
غير أن
هذا المكسب الخارجي اصطدم بفجوة الشرعية الداخلية الناجمة عن عدم مصادقة مجلس
النواب على الاتفاقية، ما جعلها في وضع فريد: نافذة دوليا ومعلّقة داخليا. وقد
أتاح هذا الوضع للقوى السياسية توظيف الاتفاقية في صراعاتها الداخلية، إذ أصبح كل
طرف يعيد تأويلها وفق مصلحته، رغم أن القاعدة الدستورية واضحة في أن البرلمان هو
الجهة المختصة بالتصديق. غير أن الانقسام المؤسسي جعل هذا الاختصاص غير قابل
للممارسة، وخلق فراغا استغلته أطراف إقليمية.
هذا
الفراغ بالتحديد هو ما حاولت اليونان استثماره. فالاعتراض اليوناني ليس اعتراضا
قانونيا، بل اعتراض استراتيجي؛ إذ ترى أثينا أن الاتفاقية تُضعف امتدادها البحري
المستند إلى الجزر، وتهدد مشاريعها المرتبطة بخطوط الغاز، وتعزز نفوذ
تركيا الذي
تعتبره تحديا استراتيجيا تاريخيا. لذلك سعت اليونان إلى الضغط لإسقاط الاتفاقية أو
تجميدها عبر بوابة الانقسام الليبي، باعتبار أن ذلك يخدم مصالحها الحيوية في
المتوسط.
قوة الوثيقة وحدها لا تكفي؛ فالمعيار الحقيقي يكمن في قدرة الدولة على تحويل الاتفاقية إلى سياسة بحرية وطنية مستقرة، عبر توحيد المؤسسات، وصياغة رؤية واضحة للترسيم، وإيداع خرائط دقيقة لدى الأمم المتحدة
وفي هذا
الإطار جاء موقف رئيس مجلس النواب الليبي الذي حافظ على مسافة تفاوضية دقيقة: لم
يصادق ولم يُلغِ. فقد أكد أن الاتفاقية غير نافذة داخليا لعدم المصادقة، لكنه
امتنع عن إلغائها، وهو ما يعكس رغبة في إبقاء المذكرة ورقة ضغط سياسية تتيح لليبيا
التحرك بين أنقرة وأثينا دون اصطفاف نهائي. غير أن هذا التكتيك -رغم منطقه السياسي-يحمل
مخاطره؛ فترك الحقوق البحرية دون تثبيت رسمي قد يسمح لدول أخرى بإيداع خرائط
منافسة، ويُضعف من موقف ليبيا حين يبدأ الترسيم الدولي الشامل للمتوسط.
وعلى
الرغم من الجدل، تبقى الحقيقة الأساسية أن مذكرة 2019 أعادت ليبيا إلى قلب
الجغرافيا السياسية للمتوسط. فقد منحتها امتدادا بحريا يتفق مع موقعها الطبيعي،
وحررتها من مبدأ "العزل البحري" الذي كان يُمارس بحقها، وأعطتها دورا لا
يمكن تجاوزه. لكن قوة الوثيقة وحدها لا تكفي؛ فالمعيار الحقيقي يكمن في قدرة
الدولة على تحويل الاتفاقية إلى سياسة بحرية وطنية مستقرة، عبر توحيد المؤسسات،
وصياغة رؤية واضحة للترسيم، وإيداع خرائط دقيقة لدى الأمم المتحدة، وتفعيل شراكات
إقليمية متوازنة.
وعليه،
فإن مستقبل السيادة البحرية لليبيا مرهون بإرادة الدولة لا بنص الاتفاق. فالسؤال
اليوم ليس: هل ستستمر مذكرة 2019؟ بل: هل ستبني ليبيا القدرة المؤسسية التي تجعل
من البحر جزءا من أمنها القومي لا مسرحا لصراعات الداخل؟ هذا السؤال وحده هو ما
سيحدد شكل الحدود وشكل الدولة معا خلال العقد القادم.