منذ قرون بعيدة، دأبت
السلطة على آلية بسيطة لضبط الجماهير، خلق ضجيج أعلى من صوت الأسئلة. في روما
القديمة، ابتدع الأباطرة سياسة "الخبز والسيرك"، حيث تُوزَّع الفُتات
على الشعب بينما تُقام الألعاب الضخمة لتلهيته عن الأزمات، وفي عصور أخرى، اتخذت
الممالك والإمبراطوريات أشكالا مختلفة لهذه الحيلة: مواكب، مهرجانات، احتفالات
مهيبة؛ لكن الهدف ظل واحدا؛ هندسة الشعور العام وإغراقه في الفرجة بدل الانشغال في
التفكير.
اليوم، تشهد
ليبيا -شرقا وغربا- نسخة حديثة من هذه الحيلة، ولكن بملابس معاصرة؛ ملاعب تُفتتح، ومباريات
كبرى تُنظم، وحفلات تُقام، ومؤتمرات إعلامية تُعقد بوتيرة عالية وبمبالغ خيالية
للضيوف، وصور
مشاريع عملاقة تُعلن كل شهر تقريبا، مع تغطية إعلامية مكثفة تُقدّم
الأمر كما لو أن البلاد تخطو نحو نهضة وشيكة. ورغم اختلاف السياسيين والجهات
والإدارات، إلا أن الأسلوب بات واحدا بشكل لافت.
لا خلاف على
أهمية الرياضة، ولا على ضرورة وجود حياة ثقافية واجتماعية تمنح الناس فسحة من
الأمل، ولا بأحقية الصيانة وبناء الكباري وافتتاح الطرق، ولكن الخلاف يبدأ حين
تتحول هذه الفعاليات إلى بديل عن التنمية الحقيقية، أو إلى أداة سياسية تُستخدم
لتجميل صورة الواقع.
يعيش المواطن الليبي ارتفاعا في الأسعار، وضعفا في الخدمات الأساسية، وتأخرا في الرواتب، وتآكلا في القوة الشرائية مع انعدام السيولة المالية.. وصل الأمر إلى أن الكتب المدرسية عجزوا عن إيصالها للطبة
على الأرض، لا
تتغير المؤشرات الاقتصادية أو الخدمية بالشكل الذي تعكسه هذه العروض؛ ما يجعل
السؤال مشروعا: هل يُستثمر في الفرجة أكثر مما يُستثمر في الصحة والتعليم والبنية
التحتية؟
ورغم أن ليبيا
تعيش انقساما سياسيا وإداريا منذ سنوات، إلا أن التشابه في استخدام الأضواء
والعروض لم يعد قابلا للتجاهل. اللغة هي نفسها؛ ترويج لمشاريع يتصدرها الاحتفال
أكثر من المحتوى، ومباريات تُستخدم لتصوير "الاستقرار"، ومؤتمرات تُبنى
بهدف تعزيز صورة الجهة المنظمة، ونشاطات تُقدَّم كدليل على "الإنجاز" في
حين يبقى الواقع هشا.
بهذا المعنى،
تحولت الفعاليات من كونها أدوات ثقافية ورياضية إلى أدوات رمزية للتنافس بين
الإدارات، كلٌّ منها يحاول أن يظهر لجمهوره بمظهر القوي القادر على تطوير البلاد.
وسط هذه البهجة
والاحتفالات تأتي التحذيرات الدولية، ليبيا تنفق أكثر مما تحتمل!.. مؤسسات مالية
ودولية تابعت خلال العامين الماضيين تضخم الإنفاق العام في ليبيا واختفاء ملامح
الرقابة الموحدة. هناك تضارب المصاريف بين مؤسسات موازية، وإنفاق مفرط على مشاريع
قصيرة الأجل، مع غياب آلية واضحة للتخطيط المالي، استخدام المال العام في أنشطة لا
تملك أثرا اقتصاديا حقيقيا.
وسط كل ذلك، يعيش
المواطن الليبي ارتفاعا في الأسعار، وضعفا في الخدمات الأساسية، وتأخرا في
الرواتب، وتآكلا في القوة الشرائية مع انعدام السيولة المالية.. وصل الأمر إلى أن الكتب
المدرسية عجزوا عن إيصالها للطبة حتى كتابتي لهذه الأسطر..!! فكيف تتضخم العروض
بينما تتقلص الخدمات؟
قبل
أيام فقط، اجتمعت الأطراف الليبية كافة للإعلان عن خطوة مفصلية، وهي توحيد الإنفاق وتنسيق السياسة المالية. في سياق مثالي،
يُفترض أن تكون هذه الخطوة تعبيرا عن وعي اقتصادي وطني، لكن توقيتها وسياقها
يكشفان أن الدافع الأكبر كان الضغوط الدولية وخشية وصول الوضع المالي إلى نقطة
حرجة.
المفارقة أن هذا
التوافق لم يأتِ بعدما ضجّ الليبيون بضعف الخدمات أو اتساع الفجوة الاقتصادية، بل
جاء بعد أن تزايدت المخاوف من أن استمرار التبذير والانقسام المالي قد يقطع شرايين
التمويل التي تعتمد عليها المشاريع الاستعراضية والعقود الضخمة، بمعنى أن الاجتماع
كان حماية لمصالح الجميع.. أكثر مما كان حماية للاقتصاد الوطني.
عندما كتبت فيما
سبق انتقادا لهذه المصاريف سألني أحدهم بنبرة ساخرة: "لماذا الزعل؟ نحن
مبتهجون". ذكرني سؤاله بمثل ليبي يقول: "فلان كيف الجرانة شايله السيل
ويزغرت"، بما معناه أن هذا الشخص مثل الضفدع الذي يجرفه السيل وهو يزغرد دون
الاكتراث بمصيره.
ليبيا لا تعاني من نقص في الإمكانات، بل من سوء ترتيب الأولويات، ومن اختلاط بين ما هو استعراضي وما هو تنموي، ومن تنافس على الصورة أكثر من التنافس على الإنجاز
ما يحدث يدفعنا
للتساؤل: ثقافة الضجيج لماذا تنجح دائما؟ التاريخ والدراسات تقول إنها تنجح لأنها
تُخاطب حاجة المجتمع إلى الأمل، وإلى لحظات من الانفصال عن الضغوط اليومية، فعندما
يعيش الناس أزمات متتالية، يصبح الاحتفال جذابا، والمباراة متنفسا، والافتتاح "خبرا
سعيدا" حتى لو كان بلا أثر. ولأن الإدارات تدرك هذا الشعور، فهي توظّفه بدقة،
تُقيم عرضا فتغطي على عجز، تُعلن مشروعا فتخفي فوضى مالية، تُنظّم مؤتمرا فتؤجل
مساءلة، وتُشعل الأضواء كي لا تظهر الظلال.
الخطر الأكبر ليس
في الفعاليات نفسها، بل في تحويلها إلى سياسة عامة تُهمل الأولويات وتستخدم موارد
الدولة في غير محلها. فعندما تُصرف الملايين على يوم واحد من الاحتفال، بينما تعجز
قطاعات الصحة والتعليم والخدمات الأساسية عن تلبية الحد الأدنى من احتياجات الناس،
فإن ذلك يعني أن النموذج كله يحتاج إلى إعادة نظر.
ليبيا لا تعاني
من نقص في الإمكانات، بل من سوء ترتيب الأولويات، ومن اختلاط بين ما هو استعراضي
وما هو تنموي، ومن تنافس على الصورة أكثر من التنافس على الإنجاز.
أعيد وأكرر أن الملاعب
ليست المشكلة، ولا المباريات ولا الحفلات ولا المؤتمرات، المشكلة
حين تتحول هذه النشاطات إلى ستارٍ سياسي واقتصادي يُغطّي على الفوضى المالية
والتخبط الإداري، وحين يصبح الضجيج بديلا عن السياسات، يصبح الوطن هو الخاسر
الأكبر.
في ليبيا اليوم،
تتكاثر الأضواء.. لكن العتمة خلفها ما زالت ثقيلة. والسؤال الذي يجب أن يُطرح
بجرأة: كم يجب أن ندفع من المال والوعي كي
نُبقي الوهم حيا.. بينما الحقيقة تتآكل كل يوم؟