مقالات مختارة

إلا الصهاينة

الأناضول
أستطيع أن أصف رئيس الولايات المتحدة بأي شيء يخطر في بالك، لكن إن قلتُ كلمة واحدة عن «إسرائيل»، أُصبح خارج الحدود المسموح بها- هيلين توماس، صحفية في البيت الأبيض.

في وطني، حرية التعبير مكفولة بموجب الدستور، غير أنك قد تُحال إلى القضاء إذا ما تضمّن رأيك إساءة لمؤسسات الدولة، أو مساسًا بالرموز الوطنية، أو الأديان والأنبياء، أو الوحدة الوطنية، أو إذا تناولت دولًا شقيقة، أو حرّضت على الفتن الطائفية.

ومع ذلك، يظل الحديث في هذه المواضيع الحساسة ممكنًا، إذا جاء بأسلوب مؤدّب، ونقد بنّاء يهدف إلى إيصال رسالة إيجابية تخدم مصلحة الوطن.

ورغم هذا الهامش من الحرية، يُصنَّف الأردن بأنه «حر جزئيًا»، أي شبه ديمقراطي.

أما الكيان الصهيوني المجرم، الذي يرتكب إبادة جماعية بحق أهل غزة، ويجوّعهم، ويهدم منازل الضفة ويطرد سكانها، ويواصل احتلال أراضٍ تفوق أضعاف ما خصّصته له الأمم المتحدة، فإنه يُصنّف – ويا للسخرية – كدولة «ديمقراطية»!

يا لسخافة هذا العالم!
من هنا، لم أعد أُصدّق تلك الدراسات التي تُصنّف وتقيس وتوزّع الأوسمة، فالكثير منها مسيّس، منحاز، وموجّه.

بعد طوفان الأقصى، كفرتُ بالغرب ومؤسساته، بديمقراطياته الزائفة، وقيمه الكاذبة التي يروّجها لنا. بل وصلت إلى قناعة راسخة بأن إعلامنا أكثر حرية، وأن نظامنا السياسي أكثر ديمقراطية. وسأثبت لكم ذلك بالوقائع لا بالشعارات.

في الولايات المتحدة، التي تقود ما يُسمّى بـ»العالم الحر»، هناك قاعدة غير مكتوبة لكنها راسخة:
يُسمح لك أن تنتقد الرئيس كما تشاء، وأن تسخر من البنتاغون، وتتهكّم على سياسات الدولة بأشد العبارات.

لكن إيّاك ثم إيّاك أن تمسّ «إسرائيل»!
فذلك كفيل بأن ينسف مستقبلك السياسي؛ الإعلام سينقضّ عليك، والتمويل سيتوقف، وستُشهر في وجهك السكاكين، وتُوصم بندبة لا تمحى.

النائبة الأميركية إلهان عمر قالت يومًا: «كل شيء من أجل المال»، ولم يثر ذلك ضجّة. لكن ما إن أضافت أن الدعم «لإسرائيل» قد يكون مرتبطًا بتبرعات المنظمات الصهيونية، حتى دخلت دائرة المحظور: أُدينت من حزبها، أُجبرت على الاعتذار، ووصِمت بمعاداة السامية، وتم تجريدها من عضوية اللجان في الكونغرس التالي.

أما زميلتها رشيدة طليب، ذات الأصول الفلسطينية، فانتقدت معاملة الصهاينة للفلسطينيين، وبكت في قاعة الكونغرس من الألم لما تتعرض له جدتها في فلسطين. لكن دموعها لم تُحرّك ساكنًا، بل اتُهمت فورًا بالخيانة.

وقدّمت النائبة بيتي مكولم مشروع قانون يمنع استخدام المساعدات الأميركية في تمويل اعتقال الأطفال على يد جيش الاحتلال، لكن مشروعها لم يُكتب له النجاح، وسرعان ما وُصمت هي الأخرى بمعاداة السامية.

حتى لو كنت يهوديًا بارزًا، وابنًا لأحد الناجين من المحرقة، كما هو حال بيرني ساندرز السيناتور الشهير، فإنك لست في مأمن. فقد تجرأ ساندرز ووصف نتن ياهو بالعنصري، وطالب بأن تكون المساعدات الأميركية مشروطة، فاتهموه بالسذاجة والتطرّف، ونعته الإعلام بأنه يساري خطير، رغم شعبيته الجارفة لدى قطاع الشباب.

وفي أوروبا، لا تختلف الصورة كثيرًا.
جيرمي كوربين، الذي ترأس حزب العمّال البريطاني بين عامي 2015 و2020، كان من أبرز الداعمين للقضية الفلسطينية، فاتهم من داخل حزبه بمعاداة السامية، وأُقصي من المشهد.

وكين ليفينغستون، الذي ترأس بلدية لندن بين عامي 2000 و2008، تحدّث عن أصول الصهيونية وانتقدها، ففُصل هو الآخر من الحزب.

وديفيد وورد، النائب عن الحزب الليبرالي الديمقراطي، فقد عضويته بعد تغريدة انتقد فيها بعض اليهود الأثرياء في بريطانيا، واصفًا الكيان الصهيوني بالعنصري.

ولا ننسى الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي، أحد أعمدة الفكر في العصر الحديث، الذي زُجّ به في السجن لمجرد تشكيكه في أرقام المحرقة. لم تشفع له شيخوخته، ولا تاريخه الفلسفي.

وفي ألمانيا، فُصلت الموظفة الحكومية مارجام سامانزدا بعد إعلانها دعم القضية الفلسطينية.
وفي فرنسا، اتُّهمت أوليفيا زيمور، الناشطة اليهودية المناهضة للصهيونية، بالتحريض على الكراهية ضد «إسرائيل».

أما في بريطانيا، فقد عُلّقت عضوية خمس نائبات برلمانيات يهوديات دفعة واحدة، لمجرد انتقادهن لغارات الاحتلال.

وبعد كل هذا، عزيزي القارئ، أعود لأسألك: من، برأيك، يتمتع بحرية أكبر؟
أنا – على الأقل – لا زلت أملك حرية انتقاد الصهيونية، التي أراها جذر المصائب ومصدر اختل ال العالم.
فإن انكسرت شوكتها، اعتدل الميزان. وإن تحرّر الشعب الفلسطيني، تحرّر العالم بأسره.

الدستور الأردنية