مقالات مختارة

الـ "بي بي سي" وإسرائيل: شدة الخوف تصيب بالشلل

الأناضول
لست من مشاهدي برامج الطبخ على التلفزيون. ولست من القادرين على فهم ما تُلزم الجرائد الجادة، كالـ«نيويورك تايمز» و«الديلي تلغراف» مثلا، به نفسها من جهود في إخراج صفحات يومية، بل ومجلات أسبوعية ذات ورق فاخر صقيل، تطفح كلها بصور الأطباق المليئة بمختلف المأكولات، مع بيان طرائق إعدادها وطهيها. ومن أسباب عدم قدرتي على الفهم أن الغالب على ظني، ربما تحت تأثير ضني بالوقت أن أنفقه في تفهّم المسألة، أنه لا داعي لإعادة اختراع العجلة وأن ما تعلمته وتتعلمه الفتيات من أمهاتهن في هذا المجال كاف وزيادة. فلكل بلاد أو منطقة فنها المطبخيّ المميز الذي لم يكن يُتعلم في المدارس.

بل إنه بقي يُتوارث على مدى قرون من التواصل والتفاعل بين أجيال من أمهات الأمس وأمهات الغد. ومع أن ثقافة المطبخ والمأكل هي من مباحث الأنثروبولوجيا، ومع أنه يحدث لي في بعض الأحيان أن أسمع بدون تركيز، في الخلفية الصوتية التي تؤثثها رفقة أنيسي المذياع، إلى بعض نتف من البرنامج الأسبوعي الذي تقدمه الفرنسية كارولين بروي مازجة فيه، حسب تعريفها الرشيق، «بين النكهات والمعارف وبين التذوّق والتفكّر»، إلا أني لا أرى أن الموضوع يستحق كل هذا الجهد الجهيد.

على أن الواقع التجاري الذي لا جدال فيه أن لبرامج الطبخ التلفزية (ولملاحق الطبخ في الجرائد والمجلات) جمهورها العريض وأرباحها الوفيرة. ولهذا فإني اهتممت عندما علمت أن الـ«بي بي سي» استغنت عن خدمات السيدة نادية حسين التي جاء في الأنباء أنها ظلت تقدم برنامج طبخ ناجحا طوال عشرة أعوام.

والبادي من تعليقات بعض المتابعين أن هذا القرار ليس بريئا من شبهات «العنصرية المؤسسية»، علما أن نادية حسين مسلمة وأنها سمراء البشرة. ولكن إذا كان الأرجح أن البي بي سي بريئة من شبهات العنصرية أو التفرقة في علاقتها بالمتعاقدين، فإن الذي لا مراء فيه على مدى السنين، وخصوصا منذ السابع من أكتوبر 2023، أنها ليست براء من تهمة الجبن أو التهيّب في علاقتها بمراكز القوى، وأولها اللوبي الصهيوني. وقد أحسنت الصحافية كاريشما باتيل، التي استقالت من الـ«بي بي سي» احتجاجا على انحيازها للرواية الإسرائيلية في تناولها لحرب الإبادة على غزة، عندما قالت إن موقف الحذر الشديد الذي تلتزمه البي بي سي قد انتهى بإيقاعها في فخ الخوف الذي يشل القدرة على ممارسة الاستقلالية الصحافية.

ذلك أن الـ«بي بي سي» قد تورطت في فضيحة مدوية عندما ظلت تماطل شهورا في بث الفيلم الوثائقي «غزة: أطباء تحت النار» الذي كانت قد كلفت الصحافيين المستقلين بن دي بار وراميتا نافاي بإنتاجه العام الماضي في قطاع غزة. وقد نشر الصحافيان مقالا في جريدة الأوبزرفر يشرحان ملابسات إنتاج الفيلم ويصفان تناقضات الأقوال وتقلبات المواقف وألاعيب التسويف التي توختها إدارة البي بي سي قبل أن ينتهي بها الأمر إلى رفض بث الفيلم. لهذا توجه به الصحافيان إلى تلفزيون «قناة 4» الخاص، فسارع إلى بثه!

والدليل على تدهور سمعة البي بي سي وتآكل مصداقيتها أن أكثر من مائة من صحافييها قد وقعوا (بدون إعلان أسمائهم) على الرسالة العلنية التي وجهها إليها حوالي أربعمائة من الشخصيات الثقافية والإعلامية تعبيرا عن القلق من «الرقابة ومن القرارات التحريرية المكتنفة بقتامة السرية في مجال تناول الأحداث في فلسطين وإسرائيل»، مع المطالبة بإقالة روبي غيب، عضو لجنة البي بي سي للمعايير التحريرية، بسبب تضارب المصالح الناجم عن ملكيته لأسهم في جريدة جويش كرونيكل الناطقة بلسان حال يهود بريطانيا والمغالية في الانحياز لإسرائيل إلى حد عدم التورع عن فبركة المعلومات والتصريحات الزائفة.

أما السبب الفعلي لرفض بث الفيلم فهو أنه سبق للـ«بي بي سي» أن بثت في فبراير فيلما وثائقيا بعنوان «غزة: كيف تنجو من منطقة حرب»، ولكن الأوساط الصهيونية زعمت أن الصبي راوي الفيلم هو ابن لأحد مسؤولي «حماس». ومنذئذ أسقط في يد البي بي سي: فقد أخذ الجميع داخلها، وخارجها، هذا الزعم الصهيوني الكاذب مأخذ الحقيقة المطلقة، بينما الواقع أن الصبي ابن لباحث كان يدير برامج الزراعة في حكومة غزة!

ولكن أنَّى للـ«بي بي سي» اليوم ولو نزر قليل من رباطة الجأش؟! لقد صارت المؤسسة العريقة، حسب تعبير المثقفين الأربعمائة، «مشلولة بفعل الخوف من أن تبدو ناقدة للحكومة الإسرائيلية».

القدس العربي