عجيبٌ كم أن الأوهام قادرة على الصمود في وجه الواقع العنيد! فإن لقاء يوم الإثنين الماضي بين دونالد
ترامب وبنيامين
نتنياهو، وهو اللقاء السادس بين الرجلين في العام المنصرم وحده، العام الأول من ولاية دونالد ترامب الثانية، هذا اللقاء حدا مرة أخرى شتى المعلقين إلى تجديد التعبير عن حلمهم بممارسة الرئيس الأمريكي ضغطاً حاسماً على رئيس الوزراء الصهيوني في سبيل الانتقال إلى المرحلة الثانية من «خطة ترامب للسلام».
وينتمي أكثر الحالمين إلى فئة المعارضة الليبرالية لنتنياهو، سواء أكانت معارضة صهيونية ليبرالية يعبّر عنها بعض كتّاب صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية، أو ليبرالية بوجه عام تتجلّى في اشمئزاز بعض الحكومات الأوروبية من نتنياهو، ويعبّر عنها بامتياز بعض كتّاب صحيفة «فايننشال تايمس».
هؤلاء جميعاً ما زالوا منذ بداية العام 2025 وقبل تدشين ولاية ترامب الثانية، يعتقدون أن الرئيس الأمريكي لاهثٌ حقاً وراء السلام في حين أنه لاهث وراء جائزة نوبل للسلام، لا غير، ولا يسعى وراء اتفاقات سلمية سوى حيث تجلب له ولأقربائه وأعوانه فوائد جمّة، بينما يتحوّل إلى محارب عدواني في ظروف مغايرة مثلما فعل ضد
إيران ويفعل اليوم ضد فنزويلا.
والحال أن الأوهام متفشية حتى في أوساط أخرى شديدة الاختلاف سياسياً عن تلك التي تمّ وصفها، تُسقط على الرئيس الأمريكي رغباتها، ومنها الكثير في منطقتنا، إلى حد أن حركة «حماس» ذاتها أعربت عن «ثنائها» على مبادراته.
هذا ويعتقد بعض الحكام العرب أن الهدايا كفيلة بدفع ترامب إلى الجريان بما تشتهيه سفن النظام العربي السائد، بينما الحقيقة هي أن مصالح آل ترامب الخليجية، شأنها في ذلك شأن مصالح الشركات الأمريكية في المنطقة بوجه عام، هي بالضبط ما يجعل من الدولة الصهيونية حليفة بالغة القيمة في نظر هؤلاء. ذلك أن إسرائيل غدت خط الدفاع الأول عن مصالح الولايات المتحدة الإقليمية منذ أن هَزمت مصر الناصرية، عدوّة تلك المصالح الرئيسية، في حرب عام 1967.
وقد أدّى بروز عدوّة رئيسية جديدة للمصالح الأمريكية مع ولادة «الجمهورية الإسلامية الإيرانية» في عام 1979، وهي قائمة على ضفاف الخليج بالذات، إلى تجديد قيمة الحليفة الصهيونية، بل وزيادتها، على الأخص إثر فشل أول عملية عسكرية أمريكية ضد النظام الخمينيّ في طهران في عام 1980 («عملية مخلب النسر»، وكانت محاولة للإفراج عن الرهائن المحتجزين في سفارة الولايات المتحدة في طهران).
فإن لقاءات ترامب، «أعظم صديق حظيت به إسرائيل في البيت الأبيض على الإطلاق» على حد تعبير نتنياهو المكرّر، بهذا الأخير، إنما هي شديدة الاختلاف عن لقاءات الرئيس الأمريكي بنظيره الأوكراني، زيلينسكي، على سبيل المثال. فحيث يرى ترامب نفسه وسيطاً بين الأخير ونظيره الروسي بوتين، بل لا يخفي تفضيله الشخصي للرئيس الروسي، يرى في نتنياهو صديقاً وحليفاً قديماً وثميناً، كما يرى في اللقاءات التي تجمعهما وتجمع أعوانهما اجتماعات عمل الغاية منها تنسيق المواقف وتقرير الخطى اللاحقة.
ولو ظهرت تباينات بين الجهتين في هذه اللقاءات، تكون طفيفة حقاً وأقل حدة بكثير مما ورد في الماضي بين إدارة باراك أوباما ونتنياهو، لاسيما في شأن مواصلة النشاط الاستيطاني الصهيوني في الضفة الغربية. وعلى الرغم من أن حكومة أقصى اليمين الصهيوني الراهنة باتت تعرب بصورة متزايدة عن رغبتها في إعلان ضمّ رسمي لمعظم أراضي الضفة، فإن جلّ ما صرّح به ترامب في هذا الصدد، إثر لقائه بنتنياهو، هو أن الاتفاق بينهما في هذا الشأن ليس «مئة في المئة»، لكنه واثق أنهما سوف يتوصلان إلى «خلاصة».
أما نتيجة اللقاء فقد جاءت بمثابة برنامج عمل مشترك إسرائيلي-أمريكي للعام 2026. ويمكن تلخيص أهم بندين في هذا البرنامج على الوجه التالي: البند الأول هو وضع موضوع نزع سلاح «حماس» ـ ومعها «حزب الله» بالتأكيد ـ في الصدارة، وهو ما توخاه نتنياهو منذ البداية، كما شرحنا سابقاً (أنظر «عن نزع السلاح في
غزة ولبنان»، القدس العربي، 2/12/2025).
وقد منح ترامب إسرائيل شهادة التزام بمقتضيات «السلام» على الرغم من خرقها المستمر لوقف إطلاق النار في غزة، ملقياً اللوم كاملاً على «حماس» التي هدّد مجدداً بإحالتها إلى الجحيم إن لم تستكمل استسلامها. وإن لم يتفوه بالمثل في شأن لبنان، فلأن الحرص العربي على توفير الحكومة اللبنانية أقوى بالتأكيد مما هو الحرص على درء «حماس»، التي يرى فيها بعض الحكام العرب عدواً.
والحرص العربي أكبر بعد على حكم أحمد الشرع في
سوريا، الأمر الذي انعكس في حثّ ترامب لنتنياهو بصورة غير مباشرة، لكنها علانية، على توفير حاكم دمشق الجديد لاعتباره يجسّد ما تحتاج سوريا إليه اليوم في التقدير الأمريكي.
كان اللقاء السادس بينهما فرصة جديدة لكيل كل منهما المديح على الآخر
أما البند الثاني الرئيسي في برنامج العمل المشترك الأمريكي-الإسرائيلي، فيتعلّق بإيران. وقد هدّدها ترامب بهجوم مشترك جديد إسرائيلي-أمريكي لو تأكد أنها ساعية وراء تجديد مساعيها النووية وتطويرها للصواريخ البعيدة المدى.
وقد اطمأن نتنياهو لاستعداد صديقه الأمريكي للمشاركة مجدداً في عدوان على إيران، وهو الأمر الذي سبق أن وصفه بأنه الغاية الرئيسية من سفره إلى فلوريدا. بل لم يبدِ ترامب من تحفّظ حيال إسهامه في قصف جديد لإيران سوى أسفه على الوقود الذي سوف تستهلكه طائراته الحربية في رحلتها بالغة الطول إلى المواقع الإيرانية!
أما عدا هذين البندين وأموراً أخرى، ثانوية نسبياً، جرى التداول فيها بين الرجلين، كان اللقاء السادس بينهما فرصة جديدة لكيل كل منهما المديح على الآخر، بين ميل ترامب المعهود إلى المبالغة القصوى كتصريحه أن إسرائيل، لولا «البطل» نتنياهو، لزالت عن الوجود، مع تكرار دعوته إلى العفو عن الرجل، وبين منح نتنياهو لترامب «جائزة إسرائيل»، وهي المرة الأولى التي تُمنح فيها لغير إسرائيلي.
ولا شك في أن دونالد ترامب أكثر جدارة بكثير بالجائزة التي منحها إياه نتنياهو مما هو بجائزة نوبل للسلام التي لا يني يعرب عن امتعاضه من عدم نيلها، أو حتى مما هو بجائزة فيفا للسلام التي اختلقها من أجله رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم بقرار مغالٍ في التملّق والنذالة هو الآخر.
القدس العربي