تنصّ المادة الأولى في ميثاق الأمم المتحدة، الذي جرى تبنّيه عند تأسيس المنظمة في عام 1945، على «المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها». كما تحرّم مادة الميثاق الثانية «التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة». فمن سمات زمننا الراهن، زمن الذروة في تبخيس القانون الدولي والطعن في مبادئه، أن القرار الأخير لمجلس الأمن الدولي حول قطاع
غزة، الذي جرى تبنيه مساء السابع عشر من الشهر الجاري ورقمه 2803، يشكل خرقاً فاقعاً للمبدأين المذكورين.
يبدأ القرار بالترحيب بما يسمى «الخطة الشاملة» الخاصة بغزة، أي خطة النقاط العشرين التي أعلنها دونالد ترامب في البيت الأبيض بحضور بنيامين نتنياهو يوم 29 سبتمبر/ أيلول الماضي، وهي ملحقة بالنص، بل «يثني» القرار «على الدول التي وقّعت عليها أو قبلتها أو أيّدتها». كما يرحّب بما يسمى «إعلان ترامب التاريخي من أجل السلام والازدهار الدائمين»، أي تلك الوثيقة الخاوية التي جرى التوقيع عليها في شرم الشيخ يوم 13 أكتوبر/ تشرين الأول بحضور الرئيس الأمريكي، بعد إلقائه خطاباً أمام الكنيست أشاد فيه بالدولة الصهيونية وبرئيس وزرائها، في احتفالين أسميناهما «مهرجان التملّق في الكنيست وشرم الشيخ»
وبعد هذه المقدمة غير المسبوقة في قرار دولي بمدحها لرئيس دولة عظمى بما يتماشى مع التملّق السائد إزاءه في العلاقات الدولية المعاصرة، يرحّب القرار بإنشاء ما يسمى «مجلس السلام» بصفته «إدارة انتقالية» لقطاع غزة «إلى أن تُتِمّ السلطة الفلسطينية برنامج إصلاحها على نحو مُرضٍ كما ورد في مقترحات مختلفة، بما فيها خطة السلام للرئيس ترامب لعام 2020»، وهي الخطة التي رفضتها كافة الأطراف الفلسطينية، بما فيها سلطة رام الله، ورفضتها جامعة الدول العربية. أي أن انتهاء الوصاية الدولية على القطاع وتسليمه للسلطة الفلسطينية مرهونان بتغيير السلطة بما يتناسب مع «خطة سلام» لم ترحّب بها سوى دولة
الاحتلال. عندها، «وبعد تنفيذ برنامج إصلاح السلطة الفلسطينية على نحوٍ أمين وتقدّم أعمال إعادة تطوير غزة، قد [may] تتوافر الشروط أخيراً لبلورة مسار موثوق نحو تقرير المصير وقيام دولة فلسطينية»، وهو اقتباس من خطة النقاط العشرين، التي سبق أن قلنا فيها إنها «تعترف بأنها لا تستند بصيغتها الراهنة إلى حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، بل تجعل من احترام هذا الحق احتمالاً ليس إلّا (قد)»
ثم «يأذن» القرار «للدول الأعضاء العاملة مع مجلس السلام وللمجلس ذاته بإنشاء قوة استقرار دولية مؤقتة (ISF) في غزة تُنشر تحت قيادة موحّدة مقبولة لدى مجلس السلام، وتُسهم فيها قوات من الدول المشاركة، بالتشاور والتعاون الوثيقين مع جمهورية مصر العربية ودولة إسرائيل». أي أن القوة الدولية يجب أن تكون مقبولة للمجلس الذي سوف يترأسه دونالد ترامب ويضم رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، توني بلير، بين أعضائه، بالتشاور مع دولة الاحتلال الخارقة للقانون الدولي ومقترفة الإبادة الجماعية.
ثم يتابع القرار: «تعمل القوة مع إسرائيل ومصر… ومع قوة شرطة فلسطينية جديدة مُدرَّبة ومُدقَّق في أفرادها، للمساعدة في تأمين المناطق الحدودية؛ واستقرار البيئة الأمنية في غزة عبر ضمان نزع السلاح في القطاع، بما يشمل تدمير البُنى التحتية العسكرية والإرهابية والهجومية ومنع إعادة بنائها، وكذلك الإخراج الدائم للأسلحة من الخدمة من قبل الجماعات المسلحة من غير الدول». أي أن القوة الدولية المقبولة من إسرائيل والعاملة بالتعاون معها سوف تقوم بنزع السلاح في القطاع وتدمير الأنفاق بوصفها «البُنى التحتية العسكرية والإرهابية والهجومية»، وهي لغة الدولة الصهيونية بالذات التي طالما وصمت حق المقاومة بالإرهاب.
ثم يضيف القرار: «ومع إحكام القوة سيطرتها وإرسائها الاستقرار، تنسحب قوات الجيش الإسرائيلي (IDF) من قطاع غزة وفق معايير ومحطات زمنية مرتبطة بعملية نزع السلاح، يتم الاتفاق عليها بين الـIDF وقوة الاستقرار والضامنين والولايات المتحدة، باستثناء وجود محيط أمني سيظل قائماً إلى حين تأمين غزة على نحوٍ كافٍ من أي تهديد إرهابي متجدد». أي أن القوات المحتلة لن تنسحب من القطاع سوى إذا كانت راضية عن نزع السلاح الفلسطيني الخارج عن سيطرتها وسيطرة القوة الدولية والذي ترى فيه سلاحاً «إرهابياً». كما لن تنسحب سوى «وفق معايير ومحطات زمنية» تتفق عليها دولة لاحتلال ذاتها مع الولايات المتحدة، أي الدولتان اللتان تعاونتا على اقتراف الإبادة الجماعية في قطاع غزة وتدميره بصورة شبه كاملة.
وحتى لو انسحب الجيش الصهيوني من مساحات إضافية في القطاع، فإنه سيظل محتفظاً بـ«محيط أمني» على طول حدود قطاع غزة إلى حين اقتناعه بأن غزة غدت آمنة «على نحوٍ كافٍ من أي تهديد إرهابي متجدد»، أي بتأجيل الأمر إلى أجل غير مسمى. والحال أن إسرائيل لا زالت تحتل الضفة الغربية التي اجتاحتها في عام 1967، قبل ما يناهز ستين عاماً، وتواصل قضم أرضها بتوسيع نطاق المستوطنات فيها بغية ضمّها رسميا في أول فرصة سانحة كما وعدتها به «خطة السلام للرئيس ترامب لعام 2020».
وأي اعتقاد بأن الدولة الصهيونية، في الأفق التاريخي المنظور، سوف تعيد الانسحاب من قطاع غزة الذي انسحبت منه في عام 2005 قبل أن تعيد اجتياحه قبل عامين إثر عملية «طوفان الأقصى»، أو أنها سوف تنسحب من الضفة الغربية، إنما هو ضربٌ من الوهم والخيال، ليس إلا.