المثقف ليس
مجرد منتج للنصوص ولا ناقلا للأفكار، بل هو في جوهره موقع أخلاقي قبل أن يكون موقعا
معرفيا. فالمعرفة، حين تنفصل عن الأخلاق، تتحول من أداة تحرر إلى وسيلة تبرير، ومن
طاقة وعي إلى أداة هيمنة. ولهذا، كانت
أمانة المثقف عبر التاريخ مرتبطة بدوره كشاهد
على عصره، لا كشريك في تزويره، وبوظيفته كضمير نقدي، لا كجزء من ماكينة التبرير الرسمية
أو غير الرسمية.
أمانة المثقف
تبدأ من وعيه باستقلال موقعه عن السلطة السياسية، وعن المصالح الاقتصادية، وعن غواية
القرب من دوائر النفوذ. فالمثقف الذي يستبدل دوره النقدي بدور تبريري، أو يساوم على
الحقيقة مقابل الحماية أو الامتياز أو الحضور الإعلامي، يكون قد تخلّى طوعا عن أمانته.
أخطر أشكال الخيانة هنا ليست الفجّة ولا الصاخبة، بل تلك التي تتدثر بلغة عقلانية هادئة،
تُعيد تعريف الظلم باعتباره "ضرورة مرحلية"، وتُبرر
القمع باعتباره "ثمن
الاستقرار"، وتُفرغ القيم من مضمونها باسم الواقعية السياسية.
الصمت ليس موقفا بريئا حين تكون الحقائق واضحة، والجرائم معلنة، والضحايا بلا صوت
المثقف الأمين
لا يُقاس موقفه بدرجة حدّته، ولا بنبرة صوته، بل بوضوح انحيازه للحق حين يصبح مكلفا.
فقول الحقيقة في أزمنة الرخاء لا يعد بطولة، أما قولها في لحظات القمع والاستقطاب،
حين تتحول الكلمة إلى خطر، فذلك هو جوهر الأمانة. في هذه اللحظات تحديدا، يُختبر المثقف:
هل يقف مع الضحية بوضوح، أم يختبئ خلف عموميات رمادية تساوي بين الجلاد والضحية، وتعيد
إنتاج الظلم في صيغة أخلاقية زائفة؟
خيانة الأمانة
لا تتجلى فقط في تبرير الاستبداد، بل أيضا في الصمت الانتقائي. فالصمت ليس موقفا بريئا
حين تكون الحقائق واضحة، والجرائم معلنة، والضحايا بلا صوت. المثقف الذي يختار الصمت
بدعوى "تعقيد المشهد"، أو "عدم اكتمال المعلومات"، أو "تجنب
الاستقطاب"، إنما ينسحب من دوره التاريخي، ويترك المجال لمن يملأ الفراغ بخطاب
القوة والتزييف. الحياد في لحظات الظلم الفادح ليس حيادا، بل اصطفاف غير معلن مع الأقوى.
وفي السياقات
السلطوية، تتحول خيانة الأمانة إلى بنية كاملة تشارك فيها قطاعات من النخبة. لا يُطلب
من المثقف دائما أن يُمجّد السلطة، بل يكفي أحيانا أن يُعيد صياغة خطابها بلغة أنيقة،
أو أن يُبرر نتائجها دون تبني وسائلها، أو أن ينتقد التفاصيل دون المساس بالجوهر. وهنا
تكمن الخطورة: حين يصبح النقد نفسه أداة لتثبيت المنظومة لا لتفكيكها، وحين يُستخدم
العقل لتبرير اللا عقل، والمنطق لإضفاء شرعية على الظلم.
معركة المثقف الحقيقية ليست مع سلطة بعينها، بل مع إغراء التخلي عن دوره. فالأمانة ليست شعارا يُرفع، بل كلفة تُدفع. ومن يختار أن يكون مثقفا، عليه أن يقبل بأن الكلمة مسؤولية، وأن الصمت موقف
المثقف الأمين،
في المقابل، لا يختزل دوره في معارضة السلطة فقط، بل في مساءلة البُنى التي تنتج الاستبداد،
سواء تجلت في الدولة، أو في المجتمع، أو في الثقافة السائدة. فهو يدرك أن الاستبداد
لا يعيش بالقوة وحدها، بل بالتواطؤ، وبالخوف، وبإعادة إنتاجه ثقافيا. ولذلك، فإن أمانته
تقتضي مواجهة
الخطاب السائد حين يكون زائفا، حتى لو جاء من المجتمع ذاته، أو من تيارات
يظنها البعض "قريبة" منه فكريا أو
أيديولوجيا.
كما أن الأمانة
تفرض على المثقف ألا يتحول إلى داعية أيديولوجي مغلق، يرى العالم بلون واحد، ويبرر
الأخطاء حين تصدر عن "معسكره"، فازدواجية المعايير هي الوجه الآخر لخيانة
الأمانة. المثقف الذي يُدين القمع حين يمارسه خصومه، ويبرره أو يتغاضى عنه حين يمارسه
من يوافقهم الرأي، لا يمارس موقفا سياسيا، بل يهدم أساس دوره الأخلاقي. الأمانة تقتضي
ثبات المعايير، لا ثبات التحالفات.
ومع ذلك، فإن
المثقف الأمين ليس بالضرورة منتصرا في اللحظة الراهنة، غالبا ما يكون معزولا، أو مهمشا،
أو مُطارَدا، أو محاصرا بالتشكيك والتخوين. لكن التاريخ لا يُقيّم المثقفين وفق عدد
متابعيهم أو قربهم من السلطة، بل وفق مواقفهم في اللحظات الفاصلة. المثقف قد يخسر موقعا
أو منبرا، لكنه حين يحافظ على أمانته، يحافظ على المعنى، والمعنى هو آخر ما يبقى حين
تتساقط كل التبريرات.
في النهاية،
فإن معركة المثقف الحقيقية ليست مع سلطة بعينها، بل مع إغراء التخلي عن دوره. فالأمانة
ليست شعارا يُرفع، بل كلفة تُدفع. ومن يختار أن يكون مثقفا، عليه أن يقبل بأن الكلمة
مسؤولية، وأن الصمت موقف، وأن التاريخ -مهما طال الزمن- لا ينسى من خان الأمانة حين
كانت الكلمة في أمسّ الحاجة إلى الصدق.